الأحد، 22 يوليو 2018

ح ك م


(1)

كطفلة طالما أحبت أن تقفز لتسير على بلاطات الرصيف ذات اللون الواحد، وكفتاة استهواها عّد درجات أي سلم مشاه تصعده، مازلت إلى اليوم أجد تسليتي وأنا شابة في الطريق، وذلك  بتجميع حروف لوحات السيارات، أو بالتدقيق في العبارات المكتوبة على ظهر سيارات الميكروباص، والتي تبدو كأنها خلاصة خبرة سنين السائق،  فأتذكر دومًا صديقتي التي كانت تضحك قائلة: "هو ليه كل سواقين الميكروباص مجروحين عاطفيًا؟".

في الطريق أتابع الجُمل المكتوبة على الميكروباصات فأجد تعزيتي في الزحام والحر، ولإسكات رأسي قليلاً عما يضج به من أفكار، يصبح البحث عن الميكروباصات المحيطة بي، لقراءة عباراتها تسليتي الكُبرى خاصةَ في الإشارات التي تشعر بأنك تقف فيها أكثر مما تسير في الشوارع.


(2)

طالما مست قلبي فكرة التقدير، أجد فيها وصفة سحرية تصلح كضامن لاستمرار كثير من العلاقات الإنسانية بشتى أنواعها، أن يُقّدرك الآخر أي أنه يعترف بشكل غير مباشر بمجهوداتك، يعكس لك أن ما تبذله لا يضيع هباء، وإنما يصل إلى قلبه فيشعر به، وإلى عقله فيدركه، وبأي فعل أو قول يعكس تقديره لك ولما تفعل، فإنه بذلك يُنشِّط من جديد قدرتك على مزيد من البذل والعطاء، وكأن التقدير "طبطبة" تهّون عليك عناء البذل، فتدفعك لمزيدٍ منه "عن طيب خاطر".

أتعجب كثيرًا من وقع كلمات بسيطة في إنعاش العلاقات  كــ " شكرًا"، " تسلم إيدك"، "ربنا يخليك"، أو من أفعال بسيطة كنظرة امتنان، أو ابتسامة، أو تربيت على الكتف، وأتعجب أكثر إنها على قدر بساطتها صارت أقوال وأفعال تتعطش لها القلوب، فيبخل بها البعض، ولا أظن أن هنالك ما هو أسوأ من أن تشعر بإن ما تبذله من قلبك بحب، يُقابل على إنه من المُسّلمات.


(3)


طالعت ذات مرة على فيس بوك "ستاتس" لأحد المستخدمين ممن أتابعهم، يذكر فيها إنه يشعر بسلاسة وبارتياح أكبر في التعامل مع مَن يجيد تقدير نفسه، وكأن أمامه نقطة بداية ونهاية واضحة للشخص الذي يتعامل معه.. شخص حدوده معروفة للجميع، فيُسهِّل على الجميع التعامل معه، فاستقر من يومها في ذهني إن شخص لايجيد تقدير نفسه.. هو شخص يضلل الآخرين عن كيفية التعامل معه بما يستحق، وصف الراحل د. أحمد خالد توفيق فكرة مشابهة في كتابه " السر وراء السطور"، حينما شبّه أي كاتب يدّعي في نفسه عدم تحليه بموهبة الكتابة من باب التواضع، بالتاجر الذي يبيع للناس بضاعة فاسدة، فكيف تعرض لي إذن منتجك الأدبي في الأسواق ثم تخبرني إنك لا تجيد الكتابة؟ بضاعتك إذن فاسدة!


 (4)

في الإشارة كنت مازلت أقف عالقة في الزحام، ونظري مثُبّت على تلك العبارة المكتوبة على ظهر الميكروباص الواقف أمامي: " التقدير خسَرنا كتير"،  وعلى حروف لوحته المعدنية " ح    ك   م".
تمتمت في سري: صدقت!، ربما خسرنا حينما أنسحبنا من مشاهد لم نقُّدر فيها كما نستحق، لكنها خسارة نسبية لشىء..مقابل الفوز بشىء أخر.

أمعنت النظر في حروف اللوحة وفي العبارة المكتوبة، ووددت لو بإمكاني أن أدُخِل بعض التعديلات على الميكروباص دون أن يسبني السائق، لو كان فقط ذلك بإمكاني.. لأضفت للعبارة: " بس خلانا نكسب نفسنا" .. ولأضفت التشكيل للحروف : " حِ كَ مْ".



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق