الخميس، 1 أكتوبر 2015

يا أبو الطاقية..أنا قلبى معاك *

كنت حينها أبلغ من العمر أحد عشر عامًا، أو ربما أثنى عشر عامًا..لا أتذكر على وجه الدقة، ولكننى أذكره جيدًا، من بين ضبابيات الذاكرة، وتداخل تفاصيل الأشياء  العالقة فى ذهنى من ذلك الزمن البعيد، بقى هو ساكنًا فى وجدانى بلا أى تشويه.. ذلك الخواجة الخمسينى " أبو طاقية بنى "..وتى شيرت فاتح اللون فى معظم الأحيان..ووجهًا رائقًا لم تعبث به هموم الدنيا، ولم تفلح الأيام فى نزع ابتسامة تعلوه..ابتسامة ودودة للغاية يشهرها فى وجه كل مَن يقابله.


كان صديقًا لخالى، يأتيه ليكتب له خالى على الكمبيوتر قصصه التى يؤّلفها..كان الخواجة كاتبًا..كاتبًا عظيمًا - على الأقل بالنسبة لى - يكتب قصصًا قصيرة جميلة.


كان قادرًا على أن يلمس روحى بكلماته التى أقرأها خلسة فى مكتب خالى الذى يقطن معنا فى نفس البناية آنذاك، كنت أتسلل لغرفة المكتب تلك وأفتح الأوراق التى تركها بخطه؛ ليكتبها خالى، فأذوب مع تفاصيلها وأضحك..أضحك بشدة، وانبهر من قدرته الفائقة على التخيل.


أذكر أن إحدى قصصه كانت تدور عن "صراصير" احتلت مسكنًا، فملأته عن آخره، صارت تتجول فى المنزل غير عابئة بسكانه، إلى أن صار سكانه أيضاً لا يعبأون بهم، تأقلم بنى البشر مع قبائل الصراصير، وصار فقط على كل منهما تنظيم حياته فى وجود الآخر، فكان الزوج والزوجة يجلسان معًا لاحتساء شاي العصارى، واضعين أيديهما على حافة الكوب؛ لكيلا يسقط صرصار فى أى منها، لم تكن القصة مقززة على الإطلاق، بل كانت كوميدية للغاية.. كانت لوحة فنية فى هيئة كلمات، تقرأها فتستحضر الصورة وكأنك ترى مشهد من فيلم، فضلاً عن خياله اللا محدود الذى يصحبك معه فى سفرة لما هو أبعد من الممكن..الممكن تخيله.


كنت حينها أبلغ من العمر أحد عشر عامًا، أو ربما أثنى عشر عامًا..لا أتذكر على وجه الدقة، لكننى أذكر أن قصصه كانت مزيجاً رائعاً بين السرد بحرفية أديب متمكن، وطرافة عجوز لم يعد يرى فى الدنيا إلا نكتة، أو ربما لم يعد يرى الدنيا إلا نكتة.


كنت حينها أبلغ من العمر أحد عشر عامًا، أو ربما أثنى عشر عامًا..لا أتذكر على وجه الدقة، لكننى أذكر أنى كنت أتعمد أن أفتح له الباب إذا علمت أنه سيمر على خالى فى موعد محدد، كنت أفتح الباب، لأفوز بتلك الابتسامة الودودة للغاية، التى يهدينى إياها مع ميل خفيف برأسه فى اتجاهى؛ ليرسل لى تحية بطاقيته المميزة.


لم يكن الخواجة أجنبيًا بالمناسبة، ولكن كانت هيئته توحى بذلك، احتفظت به في ذهنى على أن اسمه " الخواجة"، ولم اهتم حتى بسؤال خالى عن اسمه، لا أذكر أننى تحدثت أصلاً مع خالى بشأنه، ربما لأن أكثر الأشياء التى تلمس قلبك فعلاً..يشوهها الكلام . 


* العنوان مقتبس من أغنية لمحمد منير