الأحد، 11 فبراير 2018

ما بعد الفقد



يُخَّيل لي أحيانًا أن الحياة سلسلة متوالية من الفقد، يتوسطها فقط أوقات من امتلاك ما نرغب وحيازة الأحلام، أو على الأقل أوقات عادية دون خسارة. 

مَن لم يختبر شعور الفقد، مهما عظم المفقود أو صغر شأنه؟، ثم إنه في الفقد ليس ثمة عظيم وصغير الشأن، صحيح إن الفقد مراتب والوجع درجات، لكن ثمة ألم في كل تجارب الفقد عظمت أو سفهت في عيون الغير، وليس بإمكان أي شخص أن يُصنِّف لنا ما ينبغي الحزن عليه وما لايستحق شعورنا بالألم حياله.

أن يفقد الإنسان..فذلك جزء طبيعي من اكتمال تجربته على الأرض، والفقد معنى شاسع يتسع للأشياء والفرص والأشخاص، يتسع للمرض والموت والعلاقات منتهية الصلاحية، ولكن إن كان لا محالة من معاصرة المرء لتجربة الفقد في حياته، فماذا بعد.. ماذا بعد الفقد؟


يعد الإدراك جزء أساسي من تخطي أي أزمة، أي أن "يعي" المرء أنه قد فقد، وأن شيئًا أو شخصًا أو فرصة قد انتهت قصتهم من حياته وللأبد، أن يواجه فكرة الخسارة ولا ينكرها، ثم يعايش الحزن كليًا، حتي يتطهر من الألم كليًا حينما يحين موعد زواله.

مخطيء مَن يتصور أن إنكار الفقد قد يساعد المرء على التجاوز؛ لأن الإنكار ما هو إلا تأجيل لموعد الانفجار لا أكثر، وبالتالي فإن منازلة الخسارة وجهًا لوجه بتقَبُّلها مرحلة أولى في التجاوز، على أن يعقبها الاقتناع بأن الضعف الإنساني من وسائل التطهير ولا ينتقص من أي شخص، ألا يغالب المرء ضعفه..أن يبكي.. أن ينهار لبعض الوقت، كل وسائل التنفيس عن المشاعر السلبية دواء، تغَّنى بذات المعنى محمد رحيم قائلا: "واشعر ساعات إن البكا غيمة..ينزل مطر ويطهر الإنسان"، يبقي فقط المهم في النهاية أن يختار المرء بعناية من يتعرى أمامهم من قوته الزائفة ويشاركهم ضعفه، أما التحول لضحية تبكي حظها ليل نهار ظنًا بأن ذلك هو التنفيس الطبيعي عن المشاعر السلبية فأمر بائس للغاية ومثير للشفقة، من المهم أن يبقى الحزن نبيلاً..غير ملوث بشحذ عطف الغير، وللحزن النبيل هيبة وجلال، ليس من ضمنهما أن يتقمص المرء دور الضحية   استجداءً لمشاعر الآخرين.


وفيما بعد الفقد، فإنه من المهم أن يكون الاستسلام للحزن بقْدر، بحيث ينتشل المرء نفسه من الاستغراق فيه لفترة أطول مما ينبغي، فيدفع نفسه دفعًا لمحاولة الانخراط مع الغير، أن يُكره نفسه على الذوبان وسط المجتمع ومعاودة روتينه المعهود، حتى يستعيد نفسه وتستعيده، والأهم ألا يتصور المرء إنْ وجد نفسه قد تخفف من الحزن بعض الشيء أنه بذلك قد أساء لذكرى المفقود، أو أنه ارتكب خيانة من نوع ما، خيانة القدرة على مزاولة الحياة في الوقت الذي ينبغي أن تتوقف فيه الحياة حدادً على ما فقد، قد يكون ذلك من أكثر المشاعر المُركَّبة التي قد يصادفها مَن فقد، ويسيء تفسيرها المحيطون، لكن القدرة على التخفف من الحزن مع عِظَم المفقود لا تعد خيانة، وإنما هي من أوجه رحمة الله بعباده، أن نتخفف من الحزن، هو تخفيف إلهي يلهمه الله للقلوب الملكومة.


وبعد الإدراك، وعدم مغالبة الحزن، والتنفيس عن المشاعر، فتأتي مرحلة برمجة العقل على أن ذاك الشعور المقبض سيزول.. وأن تلك المرحلة ثقيلة الوقع ستمضي، سيتلاشى الحزن ويصغر، أو بالأحرى سيتراجع إلى مكان قصي في القلب، وستمضي الحياة رغمًا عن أكبر الخسارات، وفي ذلك عزاء وسلوى للقلوب المُنهكة، وفيه انعكاس واضح للطف الله الخفي، يبتلي ويخفف، ويرزقنا النسيان..يرزقنا نعمة البدء من جديد عقب كل فقد مهما كان حجم الفاجعة، أن يبرمج المرء عقله  بكثرة ترديده ذلك على نفسه، على طريقة صلاح چاهين: "هتنتهي ولا بد راح تنتهي، مش انتهت أحزان كتير قبلها؟


أما أجمل ما قد يساعد المرء فيما بعد الفقد، فهو أن يرزقه القدر مَن يتقبل خفوت نجمه وانطفاءه، مَن يحيطه بعناية، مَن يتخذ سبيلاً بين ترك مساحة شخصية للحزن، والإصرار على عدم ترك الفاقد يتوحد مع نفسه في مساحته الشخصية للحزن، فيوازن بين ذلك وذاك.

 من مِنَح المِحن أن يرزق الله الفاقد مَن يجيد الحضور وقت الفقد، فيصبر عليه ويتحمل تقلباته النفسية مع الإصرار على إحاطته بالدعم وإن تمنَّع، مَن يتحمله وهو نصف  من كل شىء: نصف تركيز..نصف طاقة.. نصف قدرة على الكلام.. نصف وِد..نصف ما هو معهود فيه في كل شىء، أو للدقة  أقل من النصف ..أقل من كل معدلاته المعهودة، فثمة أثر جميل في النفس لأن يلمس المرء الإصرار عليه في أشد أوقاته ذبولاً، وكما يُقال إن الرغبة في الاختفاء ما هي إلا رغبة في أن يتم العثور عليك، فأظن أن الأمر ذاته ينطبق في حالة الفقد، فالرغبة في انعزال الناس حينها، ما هي في حقيقتها إلا تمني ألا يتركنا مَن يألفهم القلب ننازع خسارتنا فرادى، فيقتسمون الألم معنا بوجودهم إلى جانبنا فحسب، الوجود النابع من رغبة حقيقية في مشاركتنا أوجاعنا، لا من مجرد تسديد لواجبات اجتماعية  مع الأخذ في الاعتبار أن حاجة المرء للاهتمام والدعم المعنوي تتضاعف فيما بعد الفقد، على طريقة ذلك المشهد الشهير بأحد الأفلام الأجنبية: " هل بإمكانك أن تحبني أكثر اليوم؛ لأنني لست على ما يرام؟.