الأحد، 22 أبريل 2018

أنتم لي يوتوبيا

انزل للحديقة المُلحقة بذلك المكان تضييعًا للوقت لحين انتهاء  الموظفين من بعض الإجراءات الإدارية التي تخصني.

في الحديقة يترك صديقان- في بداية العشرينات على ما يبدو - كل المقاعد المخصصة للجلوس ويستقرا سويًا على درجة مرتفعة قليلاً عن الأرض، أو بالأحرى يستقر أحدهما على تلك الدرجة، بينما يجلس الآخر أمامه في وضع القرفصاء منتبهًا لحديثه، يتبادلان سويًا حديث في انهماك شديد وتتسرب لسمعي بضع كلمات فيبدو أن حديثهما عاطفي، يشتكي أحدهما ويسدد الأخر نصائح، اختلس من حين لآخر رغمًا عني بعض النظرات لهما إذ شدني المشهد، بإمكان الرائي أن يلمس علاقة صداقة حقيقية تعكسها الوجوه التي تحمل الهم ذاته..بدا كلاهما بنفس الاضطراب لدرجة أعجزتني لوهلة عن تحديد مَن الشاكي ومًن المنصت، أحببت المشهد ولمس شيئًا ما في قلبي.



الأصدقاء الحق والأحباب وكل مَن يشعر المرء بالألفة في حضرتهم، هم وحدهم السلاح المضمون في الحرب مع الحياة، ووحدهم القادرين على تغليف القلب بالسكون وسط فوضى العالم،  وعالم يسكنه الأحباب ومَن يأتنس القلب بهم وتتبدد معهم وحشة الدنيا وغربة النفس هو يوتوبيا خاصتي، أتقدم سنًا وفي كل عام تتأكد لي هذه الحقيقة: "أعظم ما قد يجنيه المرء في حياته صُحبة وونس يُبددا مخاوفه ويعيناه على صعاب الدنيا". 

بعكس السائد عن المفهوم، لم أعد أرى يوتوبيا مكانًا حالمًا مثاليًا للغاية.. في الواقع باتت تؤرقني جدًا فكرة المثالية، وصرت أراها فكرة ساذجة مرهقة لمن يعتنقها، بينما لا وجود لأي مدينة فاضلة على الأرض، ولن يمكن تحقيق ذلك على أي حال، ولا تشاؤم في ذلك وإنما واقعية.

نحن جزء ضئيل وصغير جدًا في عالم أكبر، وما عاد يعنيني العالم على اتساعه في شيء، لم أعد التفت إلا لعالم صغير جدًا..عالمي، وأحاول أن أراه متسع بمنظوري أنا.. عالم رحب متسع بتفاصيل صغيرة مريحة فحسب، قد يبدو للأخرين بسيط لدرجة الضآلة ولكني أراه مريح لدرجة الاتساع السرمدي..هذا ما يهم، أما العالم بمفهومه الواسع وأن يحمل المرء قضايا الآخرين على عاتقه أو أن يفني عمره في سبيل بعض القضايا ..فاستهلاك للنفس، يقول عز الدين شكري فشير: "لا قضية تستحق أن يموت المرء لأجلها".. وبعد أن تجاوزت حماسة الشباب الهوجاء وأنا في عز شبابي كمثل كثيرين من أبناء جيلي الذين كبروا سنوات عدة في سنوات قصيرة تلاحقت فيها الأحداث وانهار فيه كم هائل من القناعات والنماذج، وامتزجت فيه الهزائم الشخصية بالعامة ..بإمكاني أن أتمتم خلف فشير: صدقت..لاقضية تستحق.

من المهم أن يختار المرء معاركه بعناية سواء أكان ذلك على المستوى العام أو الشخصي، أما الحماسة المفرطة التي تقود للتورط والانخراط مع كل القضايا والموضوعات فلا تنتهي إلا بخيبات مدوية، وطاقة يكتشف المرء في النهاية أنها أُهدرت فيما لايستحق، ولا يعني ذلك ألا يختار المرء سوي المعارك المحسومة بالفوز فحسب ليخوضها، وإنما فقط أن يتمتع بحس انتقائي لما يستحق تبديد الوقت والجهد لأجله، وإن انتهى الأمر بخسارة حينها، فإن النضال والمحاولة هما الانتصار، بغض النظر عن النتيجة الكلية للمعركة.

ووسط معارك الحياة، لم أعد اهتز بفعل الشعارات البراقة .. ولا بنداءات لعالم أجمل وأنقي يتسع لضم شمل الجميع ..بلا حروب..بلا نزاعات، بت أري الاعتقاد باستحالة تحقيق ذلك درجة عالية من الاتساق مع النفس ومن الواقعية.. لا درب من الاحباط والتشاؤم، أظن المتشائم ليس مقابلاً للحالم، وإنما الواقعي هو الضد المقبول في نظري.

 إذن فلتتركني قضايا العالم وشأني، فليذهب الشأن العام والاهتمام به للجحيم، فليذهب الأمل في مدينة فاضلة تضمنا للجحيم، فليتركني العالم وأحبابي فقط وشأننا، فليلغي بيننا المسافات.. فليجمعنا سويًا لنتشارك همومنا، ونتبادل النكات سخريةً على أحوالنا، فليتركنا نخطط سويًا لنزهات قصيرة بصفة دورية نترك فيها مصاعب  الحياة جانبًا ونعيد شحن أنفسنا بوجودنا معًا ، أو يتركنا ننعم بجلسات هادئة نتبادل فيها أطراف الحديث ونحن نشرب شاي العصاري، فلتسمح لنا فقط الدنيا بالائتناس بالأحبة وسط الصراعات التي تملؤها، ثم فليذهب كل شيء بعد ذلك للجحيم؛ لأن لا شيء بعد ذلك يهم.. لأن العالم مكان مقبض ومخيف، وبلا مَن يألفهم القلب تزداد وحشته وقتامته، لأن كل القضايا الكبرى هراء، ولأننا عناصر ضئيلة جدًا جدًا في عالم يسير وفق سيناريوهات تغلبها المصالح وما هو أعقد من أن تستوعبه عقولنا المحدودة

أحبابي وأوقاتي مع مَن يشبهونني هم يوتوبيا بالنسبة لي، وإن كان من المستحيل خلق عالم كبير مثالي، فإن العالم بكل صراعاته وتضارب النفوذ فيه فقط مع وصْل أحبابي مثالي بما يكفي، على الأقل سندير حينها صراعاتنا ضد العالم معًا، هذا فقط ما يهمني.. هذه فقط هي يوتوبيا في نظري..ثم ليذهب بعد ذلك كل شيء للجحيم، فإن كانت المدينة الفاضلة يستحيل وجودها على الأرض، فيكيفيني قرب أحبابي ممن أشعر معهم بأن أي مكان أفضل من أفضل مدينة.