الاثنين، 29 يناير 2018

سيدتي الجميلة

لم يكن يومًا رابط الدم كافيًا لأن تُحب مَن تجمعك به صلة قرابة، ربما يمكن له فقط أن يُبقي شيء من الود في قلبك للأقارب، أما أن "تحب" قريب ملء فؤادك..فلا يمكن أبدًا حصر السبب في رابط الدم فحسب.. للحب دومًا أسباب أخرى، وهي دومًا تسمو فوق كل الأسباب.


جدتي.. أجمل نساء الأرض في نظري، وصفها الأقرب دومًا لقلبي، والأقرب للتعريف بها في كلمة من بضعة حروف: جميلة


أراقب نفسي على مدار ثلاثة أيام مرت على رحيلها، فأجدني أختم كل جملة حديث عنها بتلك العبارة: "كانت جميلة"، ثم اندهش من وقع كلمة "كانت" .

 مُخطىء مَن يظن أن جمال المرأة محصورًا في السمات الشكلية، صحيح أن الشكل شطرًا من الجمال، لكنه مجرد جزء صغير منه، ومَن يراه الجزء الأكبر فقد فاتته حكمة تذوق معنى الجمال والإحساس به، ومَن لم يعرفها ..مَن لم يعرف جدتي.. فأظنه لن يهتدي يومًا لفهم المقصود بامرأة جميلة.

 ربما اتفهم أن يبالغ شخص في وصف جدته أو أمه بأنها الأعظم على الإطلاق؛ لأن في قلب كل أم سحر.. عاطفة عجيبة يهبها الله إياها فتجعلها قطعًا الأعظم في عين أبنائها.. الأمومة هي الصخرة التي تنكسر عندها أنانية الأنثى، ويولد عندها مع صغارها معنى الإيثار وإنكار الذات، لذا فالعظمة قرين منطقي للأمومة، ولذا تتسع اللغة لتحتمل وصف كل أم بصيغة التفضيل، وهي كانت قطعًا عظيمة، لكن العظمة على قدر مبالغة التوصيف لا تنصفها، تبدو الكلمة فقيرة أمامها، جدتي كانت عظيمة بلا شك، لكن توصيفها بالجميلة محبب إلى نفسي أكثر؛ إذ يعكس إنسانيتها، وشخصيتها الخَيَّرة..المُحبة للغير.. الجمال يحتوي صفاتها أكثر، ويليق بها.


أكتب عنها اليوم لا لأرثيها، ولا ليتحول الأمر لتدوينة بكائيات، فالموت رغم قسوته يظل بابًا مؤكد مرورنا جميعًا منه، صحيح أن سيدة كجدتي تُدمَى القلوب لرحيلها؛ لأنها حالة..حدث استثنائي فريد لا تصادفه في العمر إلا مرة واحدة، لكن أيضًا سيدة كجدتي تستحق أن يُغالب المرء حزنه، ويستجمع ذهنه للتوثيق عنها، أو ربما لتوثيق إحساسه تجاهها في هذا الوقت، وإن كان في الحزن انفعال..ففي الحزن صدق خالص، يصعب تزييفه، لذا سأكتب عنها في أوج حزني، لكني سأُنحِّي مواقفًا تمتد بطول عمري الذي عاشرتها فيها جانبًا؛ تجنبًا لتأثيرها في نفسي حتى لا يطفو الحزن على سطح القلب أكثر من ذلك، واكتفي بتوصيفها بعمومية شديدة، في كتابة أحاول أن تكون هادئة قدر الإمكان، وبتماسك أتمنى ألا يكون زائفًا، أكتب لأخبر كل من تصادف عيناه تلك السطور عن سيدة جميلة، ربما نعيد معًا تعريف الجمال من خلالها.

سيدة لم تتجاوز في تعليمها الصف الرابع الإبتدائي، تجيد القراءة بشيء من الصعوبة، لكن رصيدها مما تذكره من المدرسة يُعينها على قراءة القرآن في ذلك المصحف الكبير المناسب لضِعاف البصر، تلملم الحروف بصعوبة وهي مُنكَبة على المصحف لتتمكن من رؤية كلمات الذِكْر الرباني، تتعثر في نطق بعض الكلمات.. أساعدها.. فتبتسم.. أقرأ فتردد خلفي، لا تخجل من خطأ..أو من صغير يرشدها، أتحول في دقائق لمعلم وهي لتلميذ، نتبادل الأدوار في إنسيابية شديدة..لتهديني لحظات جميلة الأثر في نفسي بقراءة أحب الكلام مع أحب الناس.

(الجمال عدم مكابرة)



بقدر ضئيل من التعليم كانت تجاوز في لباقة تصرفاتها، وفي التزامها بما يمكن تسميته بــ " الأصول"- مَن يمتلك أعلى الشهادات وقد لا يمتلك من الأخلاق نصيبًا كافيًا، كانت هي أول مَن أثبت لي الفكرة: لا منصب ..ولا مستوى اجتماعي..ولا شهادة تعليمية دليل على رقي شخص

(الجمال تهذيب.. ومعاملة الغير بنُبل).


ذات حضور خفيف..لا تُثقل أبدًا على أي شخص مهما كان قريبًا منها، غير مُتطلِبة، وإن اضطرت..فتطلب بتهذيب بالغ، وتحذر من أن تمثل عبئًا على الآخرين، وإن أجيب طلبها فتشكر وتُقدِّر، بإمكانها شكرك على أصغر ما تقدم بامتنان حقيقي غير مصطنع، لتشعرك بأنك جلبت العالم كله وقدمته لها، فتتمنى بالفعل لو بإمكانك جلب العالم كله وتقديمه لها،  مترفعة عن الزج بنفسها فيما لا يعنيها، تترك لكل شخص مساحته الخاصة لإدارة حياته حسبما يشاء، فلا تطارد بأسئلة، ولا تتبع بفضول، تترفع عن مطاردة الغير لاستكشاف خصوصيتهم

(الجمال عزة نفس..وتعزيز للنفس).


رقيقة المشاعر.. حلوة اللسان، تنْظم من الكلام العادي شعرًا، هكذا كنت أحسب دعواتها دوما..شعر: "أجيبلك حاجة يا تيتا/ يجيبلك الهنا والسعد"، " عايزة حاجة يا تيتا/ أعوزك طيبة"، أما إن قَّبْلت يديها فتهديني جملتها العذبة: "باستك العافية". 

(الجمال.. لين القول).


متسامحة.. تضع لأحبابها من الأعذار أطنانًا إن غابوا عنها لبعض الوقت..ثم تضع من محبتها أطنانًا إن عادوا وتنسى الغياب، لم تعتبر نفسها يومًا محور الكون، الآخرون وظروفهم دومًا نصب أعينها.

(الجمال إحساس بالغير..وتقديرًا لظروفهم).


تجيد التدبير في أي ظرف، لكنها دومًا يقظة لأن احتمالات الغد قد تتضمن بعض القسوة فتستعد..وتدبر، وتخطط، حتى إذا أتى الغد قاسيًا وجدها متأهبة.. وقادرة على مواجهة رياح التغيير .

(الجمال ذكاء ومرونة).


رحلت الجميلة .. 
فانتفى عن عالمي معنى الجمال وكأن لوحة ملونة سُحِبت ألوانها وصارت بالأبيض والأسود فجأة، لكن أثرها الجميل سيمتد فينا.. أعلم ذلك جيدًا، وسأستعيد مع الوقت ألوان لوحتي بذكراها الطيبة في قلبي

رحلت ذات المكانة المتفردة في قلبي، رحيل جميل مثلها..تمامًا كما تمنت، دون أن ترهقها الشيخوخة، وهي قادرة على خدمة نفسها لأخر لحظة..وهي في وعي وذهن حاضر لآخر لحظة.. رحلت بهدوء وهي نائمة في انتظار أن تستيقظ لصلاة الفجر.. ليلة جمعة.. مطمئنة لأن أمي- ابنتها- نائمة بجوارها..رحلت رحيلاً جميلاً، فكان ذلك عزائنا وسلوانا

بكاها الصغار قبل الكبار، بدموع صادقة وحزن حقيقي، نابعًا من قلوب بريئة لا من تأثر بأجواء  قاتمة تحيطهم، بكاها أزواج بناتها بكاء ابن على أمه، فتعرفت ببكائهم عليها مرة أخرى، وعلى شطر جديد من جمالها: الجمال رحمة بالآخرين،صغير.. وغريب، الجمال قلب طيب لا ينطوي على ضغينة، الجمال أن تهدي الآخرين الحب بحُسن المعاملة، فتسترده حبًا بحُسن السيرة وبذكرى طيبة في القلوب.


صحيح أن الجمال لا يمكن توثيقه تمام التوثيق، حتى وإن اجتهدت شتى فنون الكتابة في ذلك، لكن جملة واحدة قد تكسر القاعدة وتوثق لجمال العالم أجمع..جملة واحدة  تختصر جمال العالم بتبسيط غير مُخِّل: "جدتي.. سميحة عبد الرحمن".