الاثنين، 2 يوليو 2018

رحلة الفهم الطويلة

شعور عميق بعدم الفهم يحيطني ويحاوطني.


 كما لو أن الكون بأكمله بكل شخوصه وأحداثه تحول إلى علامة استفهام كبيرة، إلى مسألة رياضية أجهل حلها، وأنا طالما كرهت الرياضيات..وأكره عدم قدرتي على الفهم.


أقف بعد عدة شهور أجبرت فيها نفسي إجبارًا على التجاوز، وعدم الوقوف أمام أي شيء وتجنيب نفسي التعامل الجدي مع الأشياء؛ لأنني إن كنت تركت المجال لذلك، ربما لم أكن لأغادر فراشي، لذا تجاوزت..ثم تجاوزت..ثم "سايست" نفسي كطفل أخبره بضرورة أن يتصرف بتهذيب بالغ..وبطاعة متناهية، فصرت كمن يلقِّن صغير: دعك من هذا..تجاوز ذلك..لا تلتفت لهذا..لا تستسلم الآن..لا تنهار ..أصمد قليلاً يا صغيري لا بأس.

 لا أفهم ماذا يتبقى لنا من الحياة إن صرنا نتعامل مع كل شيء بنظرية "عديها"؟، وفي الوقت ذاته لا أفهم كيف ستسير الحياة إن توقفنا أمام كل شيء يزعجنا، و"ماعديناش"؟. 



تجاهلت قدر الإمكان وانتشلت نفسي انتشالاً من وحل الأفكار المربكة الذي سقطت فيه لشهور طوال، فبدوت كمن يتحكم في زمام أمور حياته للمنتهى..هكذا يبدو، لكنني كنت أواصل بشكل آلي، تدهشني أنا شخصيًا قدرتي على الإنتاج في أوقات ارتباكي، لم أفهم كيف بإمكاني أن أنجز مهام عديدة في تلك الأوقات ثقيلة الوطء على النفس بعكس طاقتي في الأوقات العادية، لم أفهم هل انغماسي في أداء المهام في أوقات الهشاشة مقاومة للانهيار أم استسلام تام لدوامة الحياة يأتي في صورة استمرار بصورة آلية؟ .. لم أفهم..لم أفهم قط، على أي حال أسجل مجرد القدرة على الاستمرار وقت الهشاشة في خانة الانتصارات..الانتصارات العظيمة.  



لا أفهم كيف أجيد التجاوز ببراعة كبرى وبثبات انفعالي أمام أحداث مزلزلة، ثم على حين غفلة تنهار كل وسائل دفاعي أمام أحداث يمكن تصنيفها على أنها توافه الأمور، ولا أفهم كيف أدير كل هذا الغضب بداخلى فأسيطر عليه في حين يكن صدري ممتلئًا ببراكين غير خامدة، تتردد على مسامعي من حين لآخر جملة تكررت من مقربين وفي مرات عديدة في أوقات ارتباكي: "ما بنخافش عليكي"، في إشارة منهم لتوسمهم فيّ القدرة على إدارة شئون حياتي، فلا أفهم أهي جملة تنطوي على إشادة فأفرح بها، أم أنها تُحمِّلني ما يفوق حاجتي الإنسانية للتعبير عن ضعفي وارتباكي وعدم قدرتي على التصرف؟!..لا أفهم.



لا أفهم كيف عبرت ذلك الجسر المخيف من الغضب، لا أفهم هل عبرته أصلاً؟ ولا أفهم كيف يأتي أحيانًا الانهيار في صورة تبدو على أنها صمود، هل لأننا لا نملك أحيانًا خيار آخر سوى الصمود، ولأن الانهيار يصبح أحيانا رفاهية لا نمتلكها؟.



 أفشل في التمييز إن كان تكرار المحاولات مع بعض المسارات التي تعصانا في حياتنا يُصّنف على إنه "طول نَفَس" أم إنه استهلاك للنفْس في غير محله؟ لا أفهم إذ يُقال: " أنه قد يبدو الصبر غباء أحيانًا".*



يستعصي على فهمي أيضًا استيعاب مرور الوقت، فلا أعرف متي حدثت كل هذه الأمور؟، متى قطعت كل هذه المسافات في حياتي؟، انظر للخلف فيبدو أن قفزة زمنية قد حدثت على حين غفلة، فلا أفهم كيف يمضي الوقت سريعًا في حين كنت أشعر حينها بثبات عقارب الساعة..بثبات ورق النتيجة مع اختلاف أرقامه فقط كل يوم، متى أصبح الوقت وحدة لا تصلح لقياس الزمن بدقة؟ كم من الوقت انقضى على رحيل هؤلاء؟، ومنذ متي جاء هؤلاء؟، متى أصبح في حياتي أصلاً ذلك الفارق بين هؤلاء الأولى والثانية؟، متى وقفت عند مرحلة محددة وأبيت مغادرتها بحيث لم أعد استوعب توقيت أو كيفية كل ما جاء بعدها؟.



لم أعد أفهم حسابات الزمن المربكة، أتخيلني كعرزال بن أزرق- أحدى شخصيات رواية حمام الدار - حينما كان يُعبِّر عن كل الزمن الماضي بكلمة أمس، فالبارحة عنده هي أمس، وعشرة سنوات مضت هي أيضًا أمس، صرت مثلك يا عرزال، عالقة في حسبة مربكة، أم تُراك حكيم لدرجة أنك لا تهتم بتوقيت ما مضى، ويهمك أنه قد مضى فحسب دون أن يفرق إن كان بالأمس أو بأمس أخر من سنوات بعيدة؟.


 أصاب إحسان عبد القدوس حينما قال: " إن العمر لا يُحتسب بالسنين، ولكنه يُحتسب بالإحساس"، تحتمل عبارته أيضًا أن ما يتبقى من مراحل العمر المختلفة هو ما ما يعْلق في قلوبنا من مشاعر، ولذا قد نتجاوز مرحلة ما بحسابات الوقت، لكننا لا نتجاوزها كليًا بحسابات الإحساس الذي زرعته فينا تلك المرحلة، ويتسع ذلك لكل أنواع الإحساس من حب وكره وامتعاض وفخر وارتباك وخذلان ..وغيرها، بإمكاننا تجاوز مرحلة مضت، لكن لا يعني التجاوز أبدًا أن ننسلخ مما شعرنا به في هذا الوقت، على طريقة: "نسيت كم من الوقت مضى على ذلك، لكني لن أنس أبدًا كيف شعرت حينها"، وأظن أننا هكذا نتعلم، ببقايا مشاعر كل مرحلة، فإما ننخرط في تجارب تعيد إحياء مشاعر جميلة بعينها، وإما بتجنُب تجارب نظنها ستعيد إنتاج مشاعر سلبية، أما الفهم.. فأظنه لا يكتمل أبدًا، ربما نقترب فقط منه، نلملم تفاصيل أكثر مع كل مرحلة حياتية، لكن دائرة الفهم لا تكتمل على الأرض، لذا لا يُخيفني عدم الفهم، ربما يزعجني.. لكنه لا يُخيفني؛ لأن هذا ما يُشكلني ويصيغ تجربتي الإنسانية.. لأن جزء من كل إنسان أسئلة لا تُجاب أبدًا، وقصص لا تكتمل أبدًا، وحركة لا تسكن أبدًا، ولذا لا أتوحد مع أي شخص يدّعي بطولة السيطرة على شتى تفاصيل حياته..أو  يدّعي الفهم التام لشتى نواحي الحياة، بينما يأسر قلبي من يتصالح مع هشاشته وارتباكه، إذ أرى فيه..الإنسان.




* من رواية عزازيل للكاتب يوسف زيدان