الأربعاء، 24 مايو 2017

بوسطة 6- جدى الحبيب

جدى الحبيب
 
ربما هو درب من الجنون أن أكتب لك وأنت لست هنا فى هذه الدنيا، لكنك فيها بشكل ما، لا أعنى بذكراك فى القلب، ولكنك هنا بأثرك الممتد فينا، بأثر استشعره بقوة بعد ثلاثة عشر عامًا من رحيلك، وأظن أنه لاداعى لإضفاء المنطق على كل شىء نقوم به  حتى يتحتم علىّ تبرير سبب كتابتى لك بعد رحيلك ، فقط شعرت بالحاجة لأن أكتب لك..أو عنك بالأحري، ففعلتها . 

أنت فقط لم تفارق ذهنى طوال الأيام الماضية، في كل عام قبل بدء شهر رمضان، تحتل رأسى بقوة، أتذكر جوال البلح الكبير الذى كنت تصر على شراءه سنويًا  لتقسيمه بين أبناءك الثمانية، كبروا وتزوجوا وأنجبوا، وصار كل منهم فى بيت مستقل، لكن نصيبه من البلح ظل طقسك المعتاد، كنت طفلة تراقب فى ابتهاج ذلك الجوال الضخم فتصيبها سعادة بالغة، كنت أراقبك يا جدى وأنت تحنى ظهرك وتتابع تحركات مؤشر الميزان الأحمر الكبير لتزن أكياس البلح، ثم تغلق الأكياس بإحكام.. انهماكك التام فى إعداد الأكياس، وانهماكى التام فى مراقبتك،  ربما لم أكن أفهم  حينها ما تقوم به، لكن كنت أدرك جيدًا أنها طقوس تسعدنى.

حاولت جدتى استكمال المسيرة بعد رحيلك، ولكن بشكل آخر، هل تعرف أن جدتى فى كل عيد تحضر لنا وعاء كبير مزركش من الحلوي والتسالى والشيكولاتة وتضعه فى منتصف منضدة السفرة؟ تمامًا كما كنت تفعل أنت، أذكر أنها فى أول عيد بعد رحيلك أخبرتنى مبتسمة  أنها ستواصل طقوسك فى العيد لنشعر أن شيئًا لم يختلف بعدك، كانت تنظر لطبق الحلوى مبتسمة وهى تقول: " زى ما فتوح كان بيعمل".

أى حب هو هذا يا جدى؟ أى حب هو ذاك الذى يدفع جدتى لتوصينا بعدم نسيان شراء حلوى العيد لتجهز لنا طبق العيد.. طبقك بالأحرى؟ لم تعد جدتى تقوى على الخروج من المنزل منذ سنوات طويلة مضت وأنت تعلم ذلك، ولكنها مع ذلك تشدد علينا جميعًا عدم نسيان شراء مستلزمات طبق الحلوى، غريبة الفكرة أليس كذلك؟ أن تفاجئنا جدتى بما أوصتنا نحن بشراءه؟
أشعر أحيانًا أنها تشتري حلوى العيد من أجلك لا من أجلنا، لكننى أطمئن دومًا لوجود ذلك الطبق على سفرتها فى صباح كل عيد.

هل تعلم أننى تعلمت الأمر منك؟ أى الحفاظ على طقوس ما فى كل مناسبة لتستقر فى أذهان كل مَن فى المنزل، تغمرنى سعادة بالغة فى كل مرة يخبرنى أهل البيت بأنهم يشعروا بالمناسبات المختلفة بفضل طقوسى، لكنه فضلك أنت يا جدى، طقوسك أنت.. عاداتك أنت التى انتقلت لى لا شعوريًا، ربما هكذا تستمر البيوت برغم منغصات الحياة، بذلك الدفء النابع من الذكريات .. من الطقوس..من المراسم المميزة لكل بيت..هذا ما يجعل جدران البيت تصمد لوقت أطول

أنا فقط افتقدك يا جدى.. افتقد أن أعود طفلة مرة أخرى تراقبك وأنت تتابع تحركات  مؤشر الميزان الأحمر الكبير لتزن أكياس البلح، وأظننى الآن فهمت ما  كنت تقوم به، كنت توزع الدفء  لا البلح على أبناءك الثمانية.

رحمك الله يا جدى