الأربعاء، 19 فبراير 2014

ثرثرة موجعة وطنياً

تمهيد لابد منه :


على طريقة خزعبلات الطفولة الساذجة،بأن تظن أن الأبطال موجودون داخل جهاز التليفزيون، و لا يفصلك عن أن تلمسهم  وتشعر بوجودهم المادى سوى الشاشة،أوعلى طريقة الخرافات التى غرسها فينا أولياء أمورنا لتهذيبنا كأن ينال منا " أبو رجل مسلوخة" إذا خرجنا عن سياق الأدب ،أو أن تعذبنا "أمنا الغولة" إذا تمادينا فى تصرفاتنا المغلوطة..

 بنفس سذاجة منطق أن نرمى أسنانا المخلوعة فى الشمس مع ترديد تلك الأغنية الحمقاء" يا شمس يا شموسة" حتى لا يكون نصيبنا أسنان بديلة أصابها الإعوجاج إن لم نفعل..


 بالتوازى مع كل تلك الحماقات ،قد تكتشف مع الوقت خرافات أخرى..خرافات فُرضت عليك و أنت شخص كبير ..ناضج..لا مجرد طفل صغير تنجح مثل هذه الخرافات فى أن تُخّلص أولياء أمره من زنه و وجع دماغه..فتكتشف أنك ظللت كالأبله مؤمن بها ..إلى أن يشاء الله و يكشف عن بصيرتك ما يحجبها عن الرؤية السليمة للأمور..مع فارق أنك لن تتذكرها و تضحك كخرافة التليفزيون أو أبو رجل مسلوخة و أمنا الغولة أو السنة المخلوعة.


البداية..كلام نواعم 


كفتاه فى النصف الثانى من العشرينات،أتصور أنه من المفترض أن يناسبها فى ذلك السن أى شىء أخر غير ما أجابهه أنا و جيلى بشكل عام..كأن أتمكن  مثلاً من الاستمتاع بالإندساس  فى تلك الجلسات النسوية كالتجمعات العائلية و أنعم بدفء تلك المحادثات الفارغة التى لا تفضى لأى شىء سوى قتل الوقت..تلك المحادثات المستهلكة عن طرق جديدة لعمل أكلة معينة..أو أسلوب مبهر توصلت له طنط فلانة للحفاظ على سلامة الفاكهة لوقت أطول بأن تضعها فى ذلك النوع من المعلبات الذى تمكنت من شراءه بثمن بخس بعدما لم يتمكن البائع من الضحك عليها ( وهو ضحك عليها ونص و تلت أرباع عشان ابن سوق بالبلدى)..لكن ذلك التجمع الأخير جعلنى أشفق على جيلى ..كنت غير قادرة على مجاراة أحاديثهن ..كنت أكبر منهن سناً و أثقل منهن هماً..فاستوقفتنى كلمة الخلاط التى أنتشلتها من وسط جملة طويلة لم  أتبينها بدقة لأننى كنت أقتل الوقت بينهن على طريقتى..لا بالإستماع لهن و إنما بمشاهدتهن !


- خلاط ماركة أخرى :


كان الخلاط فى جملة طنط (س) من ماركة مولينكس..بينما ما استقر فى ذهنى و فصلنى لفترة لا بأس بها عنهن..هو خلاط الفكر الذى نعيشه نحن الشباب فى فترة يقال أنها الحياة بإنطلاقها و عنفوانها..بينما ما نعيشه فعلياً..خلاط يضربنا نحن..ويضرب أفكارنا و معتقداتنا و ما نؤمن به مع كل المتضادات و المتناقضات لما  نعتنقه، لينتج فى النهاية خليط غير محدد الهوية..خليط جزء من مكوناته يدعوك للثبات و التمسك بفضيلة ما تعتنق من مبادىء..وجزء يقسم عليك بأن تكفر بقيمك التى لا مجال لها إلا فى تلك المساحة الضيقة فى الصحراء الغربية بعقلك..وجزء أخر يوسوس لك بأن الحمقى أمثالك لن ينالوا من مبادئهم إلا كسب مناقشات نظرية بينما عمليا ً و على أرض الواقع "الفهلوة تكسب"..

فى حين أن جزء من مكونات هذا الخليط العجيب يُذّكرك بأن الخير سينتصر فى النهاية و ما نحن إلا فى مشهد الذروة الذى تتشابك فيه الأحداث وتصل لقمة التعقيد ثم تبدأ بعدها كل التفاصيل فى السير نحو المكان الطبيعى لها بعد فض الإشتباك..مقابل جزء أخر يصرخ فيك بأن إنتصار الخير لا وجود له إلا فى الميلودراما الساذجة و يكرر عليك أن العدل موجود..و لكن فى السماء  و فى الأخرة..لا على الأرض و لا فى الدنيا.

خلاط يجعلك تتوقف أمام فكرة إنه لا بد و أن  تحب بلدك و إلا فأنت فاسد الطبع و كريه و منبوذ من كل هؤلاء " الوطنيين" حولك..و لكنك فعليا ً غير قادر على حبها..لأن لا علاقة حب سوية إلا ووجب أن تكون موزونة من الطرفين أخذاَ و عطاءً..بينما ما نأخذه من بلدنا..نأخذه على " قفانا " لا أكثر.


إذن ففى كل الأحوال و جميع الأوضاع يجب أن تحب بلدك و إلا فأنت جاحد..ناكر الجميل.
منطقى..يجب أن أحب بلدى..و لكن يتطلب منا الأمر أولاً أن نضع تعريف لما تعنيه تلك اللفظة المكونة من أربعة حروف : " بلدى" التى يجب أن أحبها و إلا فأنا ناكرة للجميل..


ثم أن..أى جميل  أساساً؟


جميل الأطعمة المرشوشة بمبيدات مسرطنة..أم جميل الشرب من مياه مخلوطة بمياه صرف..جميل التعليم الفاسد..أم جميل الإهانة فى الشارع بفعل تحرش قولاً أو فعلاً من معتوه عديم الأخلاق و الدين أعطته الدولة فرصة أن يؤذينى فى الشارع دون رادع ور بما أيضاً كانت سبباً فى أن تصل به لهذه الحالة..أن يخطف لذة من الشارع عرف أنه لن يمتلكها يوما ً..


أم جميل الإهانة من كائنات موجودة فى الشارع أضطر للتعامل معهم لأن فيهم سائق ميكروباص أحتاجه ليوصلنى لعملى و أضطر للإذعان لتسعيرته للأجرة التى يقرها حسب مزاجه و إلا عّرضت نفسى للسباب من أقذر قواميس الألفاظ إذا فكرت و أعترضت..وبالقطع لا أضع نفسى أبداً فى هذا الموقف..لا أجعل الإشتباك مع أى سائق ميكروباص تحديداً من ضمن خياراتى ،وهو أمر يجعلك تشعر بالقهر فى حد ذاته..ولكننى دائماً أتذكر صورة تلك الفتاة التى أختلفت مع سائق ذات مرة لأنه سلك طريق أخر مضللاً إياها رغم أنها سألته قبل استقلال الميكروباص ليكسب أجرة إضافية بغض النظر عما ستخسره هى من وقت ..ولك أن تتخيل فتاة كبيرة فى الشارع تتلقى وابل من أقذع الشتائم دون أن يحرك أحد ساكناً !


أما أبسط السيناريوهات إذا فكرت فى الإعتراض على رفعه للأجرة فأنه سيردد علىّ تلك الجملة الكلاسيكية  بأن أنزل من الميكروباص مطرودة..أو ربما عاقب جميع الركاب بتلك العبارة الشهيرة " شوفولكوا عربية تانية..مش طالع..أبو دى فردة "!


كائنات مضطرة للتعامل معهم لأن فيهم سائق تاكسى أظل طوال الطريق معه أرسم سيناريوهات للطريقة التى سيخطفنى بها،أو أتغاضى عن نظراته الفجة فى المرآة..أو أستجمع كل قوتى للتصدى لاستغلاله لى فى المطالبة بأجرة أعلى مما يستحق أو لخبثه فى سلك طرق أطول و" الحسّابة بتحسب" أو لإنعدام أمانته بتلاعبه فى العداد..لأنه أيضاً يعرف أن لا حسيب سيتصدى له و أن الفهلوة و" تقليب الفلوس من الخلق " بأى طريقة هى وسيلته لأن يعود لأسرته مساءً بالعشاء.

أم جميل تسول وظيفة من الدولة إذا كنت ممن واسطتهم فى الحياة ربنا لا فلان الفلانى بيك..و لا علان العلانى باشا..أم جميل تسول إنهاء أى ورق من أى جهة حكومية تدفع فيها " رشا " على طريقة أحمد حلمى تيسيراً لإنهاء إجراءاتك بمبلغ يفوق رسوم إنهاء ورقك عدة أضعاف..ناهيك عن سخافة التعامل مع الموظفين الذين يظنون- إلا من رحم ربى ممن مازال لديهم ضمير حى- أن ذلك الكرسى الصغير الذى يجلسون عليه يخّولهم للتحكم فى البشر..لتكتشف أن أى  كرسى  فى هذا البلد يعطيك و لو سلطة توزيع لبان على الناس قادر على أن يحولك لإمبراطور فى حدود مملكة تبنيها أنت بذلك الكرسى البائس الذى وجدت أنه يجعلك تهيمن على الخلق..و للعجب تجدهم ينصاعون لجبروتك!


أم جميل المتاجرة بمرضك بيع وشراء حتى و إن كنت تمتلك المال و لا تنتظر من الدولة تأمينها الصحى الفاشل ،حتى و إن كنت تمتلك ثمن الكشف فى أكبر عيادات فى البلد..فبعد الفزيتة الخرافية التى تتجاوز المئتان و الثلثمائة جنيه فأنت فى شو للمتاجرة بأوجاعك: "مستعجل ..أدفع مستعجل ..مستعجل أوى أدفع للشخص المسئول  عن الحجز و تنظيم المواعيد فوق الكشف المستعجل اللى دفعته فوق تمن الكشف أساساً..استحمل عجرفة و تكبر الدكتور عليك  و ضيقه من أسئلتك عشان أنت واخد من وقته الثمين كتير.. " و كأنك ضيف ثقيل فاجأته بالزيارة فى وقت غير مناسب!


قائمة الجمايل فى البلد طويلة و بالقطع تشمل ما هو أقسى من ذلك ،لكنى فقط أعدد ما عايشته سواء بشكل شخصى أو فى محيطى الإجتماعى ،و بالقطع فحظى بها أفضل من كثيرين..و إن كان وضعى بها أفضل من غيرى فلا أظن أن للدولة أى جميل فى وضعى..لذا لا أذكر من الجمايل إلا ما عايشته بالفعل ..لكن الجمايل كثيرة و قائمتها طويلة و لا تنتهى.



إذن فهذا هو الخلاط بالنسبة لى ..كل ما سبق هو مفهومى للخلاط ..لا الخلاط من ماركة مولينكس الذى تقصده طنط "س".



إغتراب

انفصلت ذهنياً تماماً عن تلك الجلسة النسوية ،و أنا أشعر بغصة ما..إغتراب نفسى ما..صار فى داخلى فجأة غضب و حنق شديدين نحو الجيل الأكبر..لا أدّعى أننا كشباب أكثر منهم وطنية..ولكن ثمة فارق جوهرى خلق لدى ذلك الشعور بالإغتراب عن هذا الجيل،وهو أنهم قد يقبلوا بأى حلول قريبة تضمن لهم مواصلة السير دون التحقق من سلامة الطريق ..يستسهلون الأمور دون نظرة لما هو أبعد..يرضون بأى مُسكّن حتى و إن كان مفعوله سريع الزوال، بينما نحن كشباب لا نقبل أى طرح و السلام..لا من باب العند كما يتصور البعض  و إنما  من باب الخجل من دماء شابة سالت تحتم علينا ألا نقبل إلا بما سالت من أجله هذه الدماء..ألا ننظر فقط للحظة التى نعيشها و إنما ننظر لمستقبل نتمنى أن نعيشه على النحو الذى يرتضيه مفهوم الآدمية ..بات الإغتراب النفسى يملأ روحى كلما هوجمنا كجيل يتهموه بأنه لا يعجبه العجب ..رغم أن العجب كله فى أننا ندفع ثمن أخطاء و ضعف و خضوع أجيال سبقتنا..أتذكر جملة الإمام الغزالى فى كل مرة يُهاجم فيها جيلى: "هات البديل إذا أردت أن تغير وضعا خاطئا ً" ..و لكن ماذا إذا لم يستمع أحد أساساً لبدائلنا مع التظاهر فقط بالإستماع؟!


 

النكسة 


استقرت عينى و هى تتجول فى تلك الوجوه التى تثرثر على وجه جدتى الدافىء..قلّ شىء من إحساسى بالإغتراب و سكنت روحى إلى حد ما حينما لمست  عينى تفاصيل وجهها..تذكرتها فى إحدى جلساتنا معا ً وهى فى قمة تأثرها و إشفاقها على جيلى مؤكدة أن أيام نكسة 67 على رغم مرارتها إلا أنها كانت أهون مما نعيشه الآن..قالت لى وقتها ( أيامها يا بنتى كنا كلنا فى صف واحد و عارفين مين ضدنا..دلوقتى لا أحنا واحد و لا عارفين مين بالظبط اللى ضدنا) ثم أردفت (أيامكوا صعبة..ربنا يعينكوا عليها ).
 

سفر 

كنت انفصل بذهنى عنهن لأوقات طويلة ،ثم أعود لأشارك بأى كلمات إثبات حضور من باب المجاملات الإجتماعية،إلى أن بادرتنى إحدهن قائلة :" شكلك مرهقة..محتاجة تسافرى " .


محتاجة أسافر..بالقطع أحتاج للسفر..و لكن ربما لبلد أخرى..لا للسياحة..و إنما بحثا ً عن وطن أخر..ربما هو أكثر ما يعّز على ّ الإعتراف به..لأننى فقط شديدة الإرتباط بالذكريات..بالناس..بالأماكن..شىء ما لعين فى داخلى يربطنى بهذا البلد..ليست هى كبلد فى حد ذاتها..ربما أهلى..ربما أصدقائى..ربما ستفوتنى تفاصيل يحتاجوننى فيها إلى جوارهم معنويا ً..

ربما هو تفكير عاطفى بحت..و لكن تتكرر على ذهنى ألاف المرات قصص لأشخاص أعرفهم منهم من مات  عزيز عليه أو  تزوج قريب له..ولا استطاع أن يواسى فى هذا أو يهنىء ذاك بفعل الغربة..كيف لى أن أنسلخ من كل شىء بحثا ً عن وطن أخر..و أنا أعلم أن لعنة وطنى ستطاردنى أينما كنت..كيف أصلا ً أن يكون لى وطنين؟..سأظل غريبة فى أى مكان أذهب إليه مهما طالت بى السنوات هناك..لن يُغير ذلك حقيقة أن أصلى من هنا..و لن ينسينى ذلك  أننى موجوعة من هنا أيضا ً.


أذكر ذلك المقال لأحمد خالد توفيق حينما سرد قصة صديقه الطبيب الذى لم يحتمل سوء الأوضاع فى المستشفيات المصرية لعدم آدميتها..فآثر السفر بعد أن تأثرت نفسيته كثيرا ً مما عايشه هنا..لكن سفره لم يحل شيئاً فى النهاية فى سوء الأوضاع بالمستشفيات..ظل الوضع على ما هو عليه حتى فى داخل نفسه..ذلك الوجع..آثر الهروب فأخذ وجعه معه و رحل.
 


هنا تماما ً توقفت..وجدتنى أسلم نفسى مرة أخرى للخلاط و أضغط زر التشغيل بأقصى قوة..فتوقفت..استأذنت..تركت ورائى تلك الجلسة و هربت أنا الأخرى ..لا بالسفر الفعلى ..و إنما بالسفر فى ذلك العالم المٌسكن للأوجاع وقتياً..للنوم!


النهاية..جابر مأمون نصار

فى اللحظات بين إنصرافى عنهم و توجهى لغرفتى ..أيقنت أن أكبر حماقة ستكتشف أنك ببلاهتك ظللت لفترة لا بأس بها من عمرك ترددها على طريقة سذاجات الطفولة ..هى أن أحلى بلد بلدى..و أم الدنيا و هبة النيل ..إلى أخر ذلك من الصياغات المستهلكة التى حاول أولياء أمورنا "الكبار أوى" غرسها فينا ليتخلصوا من وجع دماغنا..جعلونا نعيش على أمجاد الماضى من عينة بناة الأهرامات و أقدم الحضارات و فيها حاجة حلوة.. لأنه فعلياً لا أمجاد فى الحاضر قادرة على أن تبقيك صامدا ً فى هذا البلد..ولا مجال للفشخرة فى التاريخ الحديث بأى شىء..و لأن ليس بالإمكان أبدع مما كان ..لذا كان الحل أن نعيد و نزيد و نلت و نعجن فيما مضى ..تماماً كمن يعلن إفلاسه فيظل يردد على الناس إنه " ابن بيه و جده باشا " لأنه لا يمتلك فى هذه اللحظة فعليا ً ما يدعو الناس لإحترامه فيستجدى إحترامهم بذكر محاسن العائلة الكريمة.."مع إن أبوه وجده ماتوا خلاص ".



 و للحق..فربما عدم إنتفاضنا ضد تلك السذاجات رغم عدم إيماننا بها من داخل أعمق نقطة فى قلبنا..لا لحماقة منا ولا لأننا ببغاوات تردد ما تسمع دون فهم..و لكن و على طريقة "جابر مأمون نصار" الذى أدى دوره يحيى الفخرانى فى " للعدالة وجوه كثيرة" كان لا بد له من عائلة يزعم الإنتماء لها ليطمئن قلبه بعدما وجد نفسه فى الدنيا بلا أب أو أم أو عائلة ينتسب إليها..كان يعلم أنه يضحك على نفسه  ويكذب عليها و لكنها كانت كذبة كفيلة بأن تحقق له استقرار نفسى من نوع ما..نتقمص  نحن دوره  الآن ..نضحك على أنفسنا لأنه لابد أن يكون لنا  ف النهاية وطن..لأن أقسى شىء قد يواجهه المرء هو اللا إنتماء لأى مكان..ربما نحتاج للرجوع لنهاية المسلسل مرة أخرى..و لكن أذكر أن جابر مأمون نصار أضطر فى النهاية ليتحرر من كذبته ! 


الاثنين، 10 فبراير 2014

بلوتو الدور الرابع 5 - خطاب قاتم جدا ً


صديقى الفضائى على 


عبر كل تلك التضاريس الجغرافية اللعينة التى تفصلنا..عبر غلاف القشرة الأرضية وخارج نطاق المجال الجوى،وعبر كل تلك الأشياء الكثيرة جداً التى تفصلنا ولا أجيد وصفها أو تسميتها لأننى لم أكن يوماً من هواة الجغرافيا..عبر كل تلك الأشياء المعقدة أرسل لك سلامى ..



كيف أنت يا صديقى وكيف هى  أحوال أصدقائك الفضائيين..وأحوال كل البلوتواية؟..كيف هو الوضع فى كوكبكم.. هل واكبتم ذلك المستوى المبهر الذى وصلنا  له نحن سكان الأرض؟..ذلك المستوى المبهر و الفريد  من اللاعقلانية..و اللا منطق..و التناقضات المنهكة..لا أظن..الريكورد مسجل  باسم سكان كوكبنا يا صديقى ..وعلى وجه التحديد و الخصوص مسجل باسم ناس يحتلون رقعة معينة من ذلك الكوكب.. لا داعى هنا لذكرهم..فلا داع لأن أدع صورة ذهنية سلبية تستقر فى ذهنك عن أهل بلدى..أعتبر السطرين الأخيرين "حتة حشيش ملناش دعوة بيها "على طريقة أحمد زكى أحد نجوم كوكبنا



هيه..ما علينا


ربما أثرثر فى خطابى هذا أكثر من الحد المعتاد فى مقدمات خطاباتى لك..ربما أحاول لا شعوريا ً أن أنتشل نفسى من  تلك الدوامة التى لا أدرى من ألقى فيها بذلك الشىء الذى خلق مجموعة من موجات الصمت ليتسع مداها مبتلعانى بداخلها..ماذا كان ذلك الشىء أساساً؟..متى كانت تلك اللحظة التى أستسلمت فيها للصمت؟..لا أذكر..كل ما أذكره يا على أننى استيقظت من النوم فى  يوم ما و أنا غير قادرة على مجاراة أى شىء وكل شىء..و لو حتى بالكلام..حالة من " التناحة الخام" يا صديقى و أحتلتنى..صدقنى كنت على بُعد خطوات بسيطة من التحدث بلغة الإشارة بعد أن زهدت الكلام !



لذا دعنى اليوم أحدثك قليلاً عن الصمت ..و لكن أرجوك يا صديقى..وعلى نحو تحذيرات بعض البرامج قبل بدء عرضها إذا ما تضمن محتواها ما استلزم التنويه بشأنه..أرجوك  فكر قليلاً قبل أن تتخذ قرار بالقراءة..فخطابى هذا يتضمن قدر لا بأس به من الإبتذال و الكلام المستهلك  حد " الهرى" ..و يتضمن تعبيرات مُحملة بقدر كبير من القتامة..فأرجوك إن كنت فى حالة مزاجية لا تسمح بالقراءة أرجوك مزقه الآن ..و أنس أمرة تماماً..أما إن أصررت على القراءة ففقط تذكر أنى نبهتك..



الصمت..الصمت يا صديقى



أعتقد يكفيك أن تجرى بحثاً صغيراً على الإنترنت..و لا أفترض أنه سيكون عبر جوجل..و لا أعرف أصلاً إن كانت تجربة الإنترنت لديكم أنتم أهل بلوتو باتت إختراع رجعى عتيق أم لا..ربما لديكم سيرفرات دقيقة فى منطقة ما فى دماغ كل فضائى توفر لكم القيام بأمور مماثلة ..هذا بفرض أن للفضائى دماغ أصلا ً!



و لا أقصد هنا الإهانة..أقصد بالفعل الدماغ بوجودها المادى..لا أعرف إن كان تكوينكم يماثل الصورة الكلاسيكية لمعظم الكائنات: رأس..عين..أنف ..إلخ، أم أن لكم تصنيفاً خاصاً بكم على نحو أعجز عن تخيله..لا أعرف..ربما كل ما تتسع له رأسى أنا من خيالات أستمده من مجلة  ماجد..تلك المجلة التى أعتدت قرائتها فى طفولتى و كانت تخصص مساحة لإرسال مساهمات القراء المرسومة عن تخيلاتهم لشكل الفضائيين.

أيا ً كان..عموماً لا أعرف شكلك يا على و لكنى أعرف أنك كائن دافىء..تماماً كدفىء " E.T " ذلك الفضائى الطيب الذى أبكانى فى طفولتى حينما مات فى  ذلك الفيلم الذى لابد أنك و أصدقاؤك تجمعتوا لتشاهدوننا فيه على أننا نحن الفضائيين..تماما ً كفيلم نيكول كيدمان The others ، حينما أكتشفنا فى أخر الفيلم أنها و أبنائها موتى وأشباح بينما من ظنناهم أشباح هم الأحياء..فيلم يناسب جنون كوكبنا يا صديقى..و عموما ً يمكنك البحث عنه أيضاً لمزيد من التفاصيل.



وبالعودة للصمت، فأيا ً كانت الطريقة التى ستجرى بها بحثك..فسوف تجد يا صديقى ذلك الكم الكبير من الأوصاف التى تؤكد جميعها على أن الصمت صراخ..الصراخ الأعلى لأى شخص فاق الألم قدرته عل الإحتمال.



ربما يكون فى تلك الأوصاف شىء من الصدق..الصمت فى غالبه ألم..و لكنى لا أجده صراخ..الصمت أبلغ مراتب " القرف" يا صديقى..قرف تصير معه قدرتك على الصراخ شىء مستهلك للغاية..و أعذرنى إن أكثرت من استخدامى للفظة "قرف" ..و لكنى لا أجد ما هو أكثر دقة منها للتعبير عن تلك الحالة..حالة القرف!



الصمت زهد..


زهد من فرط " القرف " يا على..زهد لأن كل تلك التفاصيل المحببة باتت بلا طعم..لأن كل تلك الأبواب التى آثرت تركها " مواربة" بعد أن صرت غير قادر على معرفة أى القرارين بين الفتح و الغلق هو الأصوب أصبحت تشكل عبء..فتحولت حياتك فجأة لمجموعة من الأبواب المواربة التى لا تدخلك لأى مكان ولا تخرجك منه ،بل تجعلك هكذا..معلقاً في منطقة البين بين، بين الخوف مما وراء الدخول..والجبن أمام الخروج و السير مبتعداً.



قرف لأن ذلك الشىء الموجود فى أعمق نقطة فى قلبك ينهكك..وقرف لأن ذلك الشىء الطافى على سطح قلبك لا يشبهك..و لا يشبه ما تضمره ف الأعماق..قرف لأن التناقض و الشيزوفرينيا التى تعيش بها بين ما تضمر و تعلن كفيلة بأنها " تخليك تهنج "..و لأنها موجعة و منهكة حقا ً.



قرف لأن ذلك الخط الرمادى لا يفصح لك أبداً عن الحقيقة..فلا يخبرك بأن تتمسك بالشىء لأنه ربما يكون فيه فرصة عمرك..و لا ينصحك بأن تهرول مبتعداً لأن نفس الشىء ربما يكون صفعة العمر،يتركك هكذا ..فى ذلك التيه..بلا كتالوج..لأنه رمادى..محايد..ماكر.



قرف بيور و خام و جامبو لأنك أصبحت مرتضى تماماً ذلك الوضع المزرى لدرجة أنك حتى لا تكافح لتغييره.." اتصاحبت على القرف يعنى ".



الصمت يا على ثورة داخلك كانت تنوى يوما ً أن تعبر عن نفسها..و لكن القرف حولك أخبرك بصدق أن تتراجع مردداً عليك   " أقعد بلا نيلة " !


الصمت قصة لم تكتمل بعد أن تاهت تفاصيلها فى زحام الحياة..أو زحام القصة نفسها بتفاصيل كثيرة..غيرك!



والصمت مُسبب يا صديقى..دائما ً  و أبداً مُسبب..و إياك أن تصدق  أى شخص يخبرك بأنه لا يعرف سبباً لصمته،بمن فيهم أنا كما أخبرتك فى بداية الخطاب..أعرِف يا على لماذا استسلمت لتلك الحالة من السكوت..كلنا نعرف لماذا نصمت و لا سوانا أدرى منا بنفوسنا..نعرف تماماً أننا نكذب حينما نختار تلك الأجوبة الساذجة من عينة زهقان و ملان و سوبر مان..صدقنى يا على يدفعك الملل لفعل أى شىء سوى الصمت..و لا شىء سوى الخذلان يدفعك للصمت..فالخذلان..لا  يشفيهعتاب و لا  يزيل أثره من روحككلام..فقط الصمت عَرَضه و لا أعرف إن كان هو علاجه.. الصمت خذلان..تلخيصا ً و إجمالاً و صدقا ً..فالصمت خذلان !



اسفة يا على..أعلم قدر ما سربته لك من طاقة سلبية.
واسفة إن كنت سأضطر أنهى خطابى بذلك الإقتطاع المفاجىء الذى ينهيه على نحو مبتور !

من كوكب الأرض..مع تحياتى ،،