الثلاثاء، 12 ديسمبر 2017

في صباح شتوي بارد

كان صباحًا روتينيًا.. سبقته ليلة شهدت اضطرابات نوم واضطرابات فكر.
لم أكن في مزاج رائق عند الاستيقاظ..أو ربما لم أكن في كامل استعدادي للانخراط مع الآخرين أو مواجهة الأشخاص، بينما كان يوم عمل حافلاً بلقاء الناس.
أندهش أحيانًا من قدرتنا على الاستمرار ومواجهة تفاصيل الحياة اليومية ولقاء الناس..رغم أننا لا نكون مؤهلين تمامًا لذلك..وأظن في الأمر بطولة تستحق الاحتفاء بها.

عند مغادرة المنزل كنت قد تأخرت عن موعدي، ولكني لم أكن أبه لذلك.. ربما لم أكن في مزاج غير رائق فحسب، أظنني كنت في حالة "مش فارقة."
أشرت بيدي لسيارة أجرة..أخبرت السائق عن وجهتي، فأخبرني- بإبتسامة سمجة - أن العداد لا يعمل، لأخبره بدوري عن الأجرة المعتادة التي أدفعها، فماطل لزيادتها، رفضت استقلال التاكسي، ثم شعرت بشيء من الرضا لرفضي الرضوخ لاستغلال أحدهم لمجرد تأخري عن موعدي.
مزعج جدًا أن يستهلك المرء طاقته في  معارك جانبية..مع السائق..مع البائع.. مع موظف كسول فى مصلحة حكومية..إلخ

واصلت السير على قدماي لبعض الوقت رغم تأخيري.. هواء الشتاء الصباحي جميل، ويمكنه تغليف الروح ببعض السكينة، ودفعنا لعقد صلح مؤقت مع قسوة العالم ونسيان الصباح الروتيني والليل المضطرب.

كان علىّ حينها دفع نفسي للبحث عن سيارة أجرة، يتحتم على المرء مقاومة الاستسلام لحالة "مش فارقة".. أظن مقاومة الإنسان لنفسه وتقويمه ذاته وتهذيبها من أشجع ما قد يقوم به المرء مع نفسه، لذا فقد فعلت.

أشرت بيدي لسيارة أجرة أخرى.. كان السائق رجلاً في أواخر الستينات على ما أظن، يبدو ارستقراطي الهيئة رغم بساطته، يعلو رأسه شعر أبيض في معظمه يخالطه سواد بسيط في بعض الأجزاء، وتغطي وجهه نظارة بنية الإطار والعدسات فتحجب عينيه وتضفي عليه بعض الوقار، ويرتدي چيليه صوف كحلي اللون على قميص ذا أكمام طويلة.. مظهره في إجماله مهندم يليق برجل كلاسيكي متقاعد.

بدأ حديثه فور استقلالي السيارة بتنبيهي عن تقلب الطقس وكيف إنه توقيت مثالي للإصابة بالحساسية، ظننت لأول وهلة أن حظي أوقعني مع سائق ثرثار، لكن سرعان ما تغير انطباعي، ليس ثرثارَا وإنما أظنه شخصَا يفتقد الونس، كما أن تنبيهه لي لم يبدو كباب لفتح الحديث، وإنما شعرت بصدق أبوي فيه..هكذا شعرت، وأؤمن بأن المرء إن لم يمتلك دليلاً فيكفيه تصديق حدسه..تصديق ذاك الصوت الداخلي الذي يأتينا من أبعد نقطة في قلوبنا، ثم كيف يمكن المرء تقديم دليل عن شعور يراوده؟

تحدث طوال الطريق.. لكنني لم انزعج إطلاقًا من حديثه، بل وجدتني أنصت إليه باهتمام شديد، كان حديثه بالفعل مسليًا، وكان خفيف الظل، لم يكن يستهدف أن يبدو خفيف الظل، ولذا بدا كذلك بالفعل.

اختار موضوعات حديثه وقاد الحديث بسلاسة..الحكي مهارة وكان يمتلكها، تحدث عن الشوارع قبل زحام العصر الحديث.. وتغيرات المعمار.. واختلاف شكل الناس.. عن فساتين الفتيات الأنيقة، حدثني عن أفلام الأبيض والأسود..وعن أيام زمان إجمالاً، بدا مفتقدًا بشدة إلي شيء ما.. زمن ما..أو ربما شخص ما، ثمة شيء خفي من الشجن كان يغلِّف حديثه، لكنه مع ذلك لم يكن  من نوعية  الأشخاص التي تستجدى عطف الآخرين، وكان ذلك يضفي علي حديثه سحرَا من نوع ما.
 أظن أن أعظم ما نتأثر به هو ما لم يستهدف مسبقًا التأثير فينا.

كان حديثه حماسيًا ..ولا أظنه كان ينتظر مني ردود.. كنت فقط أتدخل بجملة من حين لأخر، أظن أنه بإمكاني أن استمع لحديث مطول حتى وإن لم يقع تمامًا في نطاق اهتمامي، وأن استمتع للغاية بالإنصات لمجرد متابعة حماس المتحدث، تبدو كل الناس أكثر جمالاً وهي متحمسة لشيء ما، وأظن للسبب ذاته، يترك الخذلان الناس منطفئة؛ لأن الخذلان يسحب من المرء حماسة كانت موجودة في يوم ما، ويستبدلها بخواء مرعب.

وصلت إلي وجهتي وأنا في مزاج أفضل، لأعود وأكتب مساءً عن ذلك الرجل الكلاسيكي ذا الچيليه الكحلي.. المفتقد للونس، الذي لن يعلم أن لقاءًا عابرًا بفتاة صادفته في صباح شتوي بارد سيترك أثرًا ما في نفسها، وسيترك في الوقت نفسه احتمالاً في عقلها بأنه ربما مَن لم يكن يستجيب لأحاديثنا إلا بردود مقتضبة لم يكن غير منتبهًا لما نقول، ربما فقط كان متأثرًا لدرجة عدم القدرة على الرد المطول، وأنه ربما نكون قد تركنا أثرًا ما في قلب أحدهم أيضًا دون أن ندري.. ربما.


السبت، 2 ديسمبر 2017

نادي الثلاثين

 كمتسابق يقف في صفوف تجارب أداء منتظرًا أن يأتى دوره ليعتلي المسرح ويقدم فقرته، أقف في صف يسبقني فيه مَن بلغ الثلاثين قبلي، والآن قد حان موعد فقرتي عن الانضمام لنادي الثلاثين.

يبدو إذن أنه أمرًا مختلف أن تكمل ثلاثة عقود بما يجعل من الأمر تجربة تستحق التدوين لأول محطة حياتية يمكن أن تقف عندها صائحًا في الآخرين: "أنا مبقتش صغير..انا عندي تلاتييييين سنة".

 يخالط الأمر شيء من التباهي برقم تدّعي عنده أن لديك رصيد ما مع الحياة؛ لأنه وصولاً لهذا الرقم تكون قد مررت بلا شك على كثير من معاني الحياة، أو بالأحرى قد مرت  بعض معاني الحياة عليك.. كشاحنة ثقيلة تعبر فوق روحك في بعض الأحيان،  ففي الطريق إلى الثلاثين لابد وأن تكون عاصرت معاني عن المكسب والخسارة، الفقد، الانتصار، الانكسار، الحب، الصدمة، الخذلان، المرض، الاعتماد المطلق أو الجزئي على نفسك .. وغيرها من معاني متضادة تشكلك الحياة عبرها، بما يجعل الثلاثين تجربة مختلفة.. أو تجعل الثلاثين منك شخصًا مختلفًا، وفى الحالتين يستحق الأمر التوقف عنده.


لن أدون عن الثلاثين في صورة نصائح أسديها لغيري، في الواقع باتت فكرة النصائح تزعجني؛ لا لأنها تكون في حالات كثيرة مجرد تنظير فارغ يريد به من يسديك النصيحة أن يبدو عارفًا ببواطن الأمور، ومدعيًا قدرته علي العبور سالمًا من دهاليز الحياة الوعرة ومتغنيًا بأمجاده، وإنما لأنني صرت أجد فيها مصادرة علي حق الآخر في التجربة، في أن يختار بنفسه.. ويخوض التجربة.. ويخطئ، وصولاً لأن يصيغ بنفسه قناعاته الأنسب لحياته وظروفها، أظننا لم نعد في حاجة لقوالب نصائح جاهزة نرددها علي بعضنا بعضًا كنصوص جامدة تتلو علينا ما يجب فعله ومالا يجب، وإنما قد يتمثل جُل ما يحتاجه المرء في تنبيه بسيط يحذره إذا ما جانبه الصواب دون مصادرة علي حقه في التجربة وباستيعاب كامل لأن اختلاف ظروفه قد لا تجعل نصائحي ملائمة له، والأهم  احتياجنا للدعم في حالة الخطأ أكثر من النصيحة، أكثر من  صوت مؤنبًا تحت شعار: "مش قلت لك وماسمعتش كلامي؟"،  لذا سأدون فقط عن الثلاثين كتوثيق للتجربة، ربما أعود لما كتبت بعد سنوات طوال - إن كتب لي الله العمر- لأقرأ كيف كنت أرى حياتي وأنا شابة.

في الثلاثين تجد نفسك تبدأ الاحتكاك الحقيقي بالحياة، ولكنها بداية من المنتصف إن جاز التعبير، بداية تسبقها سنوات طوال من محاولات الاستكشاف المرهقة، ربما لا يمكنني أن أصف العشرينات بغير هذا: "سنوات الاستكشاف"، فإن كانت السنوات الاولي للوليد يكتشف فيها الأشياء والأشخاص من حولة للمرة الأولى، فمرحلة العشرينات بأكملها هى السنوات التي يحاول فيها المرء "فهم" الأشياء والأشخاص حوله للمرة الأولي، سنوات استكشاف المفاهيم وصياغتها، ثم هدم مفاهيم خاطئة وصياغة أخرى من جديد بعدما يثبت أن ما استقر في الأذهان طويلاً كحقائق "طِلع بلح"، وهى رحلة مرهقة جدًا للنفس تهتز فيها ثقتك بكثير مما يحيطك من أشياء وناس ومفاهيم.

 ربما لذلك لم أحب العشرينات كثيرًا،  إلى أن أصبْحت أكثر تصالحًا معها في النصف الثاني منها، وبعكس كثيرون لا أودع العشرينات بشجن او بخوف من تسجيل عمري برقم 3 بدلاً من رقم 2، ربما فقط يثير في نفسك التغيير إلى رقم 3 شيئًا من ضرورة الانتباه إلى أنه لن يجدي نفعًا على الدوام التعامل مع الحياة بطريقة "خلي بكرة لبكرة"، وأن التخطيط لشكل حياتك أمرًا يجب الانتباه له، وفيما عدا ذلك لا تفزعني الثلاثينات ولا اترحم علي العشرينات، لا تفزعني الأرقام، ولم أعانِ يومًا من تلك المشكلة الكلاسيكية التى تؤرق السيدات في الإفصاح عن أعمارهن، لا أرى تقدم المرء سنًا أمرًا يستوجب الإنكار، ولا استمد إحساسي بشخصي من رقم يؤرخ ليوم مولدي، لا تفزعني فكرة أنني أكبر إلا في جانب واحد فقط: أن أكبر دون أن تمتليء سنواتي بالحياة، ألا امتليء بالونس ممن يألفهم القلب.. ألا أشبع من أحبابي، خاصة مع مرور السنوات سريعة..سريعة جدًا، لا تفزعني فكرة أني بالفعل أكبر، وإنما أخاف وأفزع فقط من سرعة الوقت، من تلك القفزات الزمنية التي لا يستوعب المرء متى حدثت؟ أين الارتواء من كل تلك الاحداث التي مضت كالومضات؟ لما تمر لحظات الفرح سريعًا، بينما ينطبع الألم في القلب كندبة لا يزول أثرها سريعًا..أو ربما لا يزول أصلاً كجرح التئم ظاهريًا فقط بينما لن ينمحي أثره أبدًا؟ .

تنتهي العشرينات لتقف مرتبكًا بين  فكرة أن تكبر وأن تستنكر متى حدث ذلك؟ 
في الثلاثين تكتشف تغيرات ما طالت شخصك.. لم تعد بحماسك المعهود تجاه كثير من الأشياء، لن تراوغ كثيرًا في شتى شئون الحياة، تقل قدرتك القتالية، أو ربما تقاتل بصورة أكثر ارتكازًا وأقل اندفاعًا؛ لأنك صرت أكثر ادراكًا لعدم جدوى إهدار مزيد من الوقت في معارك لا تنتهي بفوز أحد.. أو في قصص تستهلكك وحسب، أو مع أشخاص لا تشعر معهم بأنهم مساحتك الآمنة، فى الثلاثين تترك ساحة الاشتباك وتفضل الجلوس في المدرجات مستمتعًا بــ "الفُرجة"، ومندهشًا من أنك سمحت لنفسك يومًا - مدفوعًا بحماسك الأهوج- بالانخراط في معارك لا تنتهي إلا بهدر للطاقة فحسب، وإن اخترت النزول إلى الساحة تكون انتقائيا للغاية فيما يستحق الاشتراك فيه.

في الطريق إلى الثلاثين صرت أُبلي حسنًا في محاولات السيطرة على نوبات قلقي، بينما صارت نوبات قلقي متكررة مقارنةً بما كانت عليه وأنا في سن أصغر، أظن القلق يكبر معك أيضًا وتختلف فقط طريقة استجابتك له، فتصبح أقل هلعًا..أو هكذا تبدو، لكن يصاحبك القلق دومًا من سيناريوهات يأخذك ذهنك بها لغد غير مألوف،  صرت ماهرة في عدم التصريح مباشرة بما يثير قلقي، وماهرة في التعامل مع تفاصيل الحياة اليومية وكأن لا شيء يزعجني من الأساس، بينما صار القلق أكثر مهارة في تغيير استراتيجيته معي، أصبح يأتيني مع تجاهلي له في صورة نوبات من اضطرابات النوم.. واضطرابات الطعام.. واضطرابات صحية يهاجم بها جسدي، وأظن الأمر نفسه بات ينطبق مع نوبات الاكتئاب التى اختلف شكلها مع التقدم سنًا، فلم يعد الاكتئاب يدفعك للانزواء في غرفتك وحيدًا، وإنما صار المرء رزينًا حتى فى اكتئابه.. يكتئب وهو يواصل يومه..وعمله..ويقابل الناس.. ويضحك على فيس بوك، ربما تصالحنا مع الجانب القاتم في الحياة كما تصالح راسل كرو مع هواجسه في فيلم "Beautiful mind".

صرت أيضًا أكثر عملية.. عملية في اختيار ملابسي..فى اختيار الأماكن.. صار أهم معيار  لدي في المفاضلة دومًا هو " الراحة".. وتوفير المجهود المهدر في تفاصيل لا تُنهك إلا صاحبها.. وأظننى استخلصت أيضًا أن المعيار ذاته قد ينطبق على الأشخاص المفضلين..هؤلاء الذىن يمثلوا للمرء واحة هدوء وراحة، ولا أظن أن فكرة ارتياحك لأحدهم يسيرة أو قابلة للتكرار بسهولة.


‌أما أبرز تغيير لمسته في نفسي في السنوات الأخيرة من العشرينات، كان ما وصفته يومًا لصديق بــ  "القسوة"، كنت منزعجة حينها من قدرتي المفاجئة على ألا أجيب نداءات كل من يحتاجني، ألا أبذل مجهودًا للحفاظ علي مَن تبهت علاقتي معه كما كنت في السابق، أن أصبح انتقائية للغاية فيمن يستحق مجهودي معه، وأن اتعلم أن أقول "لا" بلا أدنى إحساس بتأنيب الضمير، وإنما إيمانًا بأن الرفض أحد حقوقي وأنني لست مضطرة على الدوام لأن أفعل ما يُطلب مني، اختلف معي صديقي حينها وأخبرني أنها ليست قسوة وإنما تغيير مطلوب في المرء حفاظًا على نفسه من الاستنزاف، ووافقته الرأي صديقة أخرى تطرقت معها لمناقشة الأمر ذاته بعد فترة، فاطمئن قلبي لأنني ربما لم أعد أكثر قسوة..وإنما قد أكون صرت أكثر إدراكًا.. وصرت أكثر حبًا لنفسي، ذلك الحب المحمود لنفسك، الذي يجعلك مؤمنًا بأن تنتبه جيدًا لحق نفسك عليك، وأن حب الآخرين لا يعني أبدًا أن تهلك نفسك وتستهلكها في سبيل من يحولك ومجهوداتك إلى شيء مُسلَّم به، وأظنه صار التغيير المحبب إلي قلبي بين جملة تغييرات طالتني، وإن كنت لم آلفه كليًا إلى الآن.

سلم
 على بُعد أيام من بلوغ الثلاثين أقف مودعة العشرينات بلا ندم على ما أخطأت فيه..بلا ضغينة تجاه أي شخص  خذلني..أو حزن على أى فرصة فاتتني، بقدرة كبيرة على التجاوز.. وبتصالح شديد مع الشخص الذي كنته بالأمس، ومستقبلة الثلاثينات لا بأذرع مفتوحة للغاية لأنني تعلمت أن الحماس الشديد حماقة، وإنما بقلب مفتوح يُمنىّ نفسه بأن يسع نفسه دومًا بكل تناقضاتها..وأخطائها.. وتجاربها.