السبت، 17 ديسمبر 2016

ممر آمن للحزن

ثمة إمارات كثيرة تشير لأن شخص ما بإمكانه استيعابك وفهمك واحتواءك، قد يكون منها عدم التسفيه من أى شىء يعنى لك الكثير حتى وإن كان خارج نطاق اهتمامه بالكامل، أو أن يهتم بمشاركتك نشاط ما  لإدراكه بأن هذا النشاط يُسعدك، أو أن يصغى لك حينما تندمج فى حكى تفاصيل حياتك  اليومية ويستوعب ثرثرتك عن قصص قد لا تعنيه بالمرة، لكنه برغم ذلك يعطيك من وقته وقلبه براحًا لتملؤه بقصصك الفارغة.

 قائمة الاحتواء طويلة، لكنى إن اخترت أكثرها أهمية سيكون بلا شك استيعاب الحزن وفهم السبيل للمواساة كما ينبغى أن تكون.


يخطىء من يظن أن مساعدة الغير فى تجاوز أحزانهم تكون بمحاولة إنكار أسباب الحزن وتصغيرها مقارنًة بأسباب يفندها على أنها وحدها ما تستحق الحزن، مخطىء أصلاً من يلجأ للمقارنة كأسلوب يلجأ إليه فى عقد المقارنات الشخصية؛ والسبب فى أنه لا يمكن عقد مقارنات شخصية لأنها شخصية، هكذا ببساطة، قدرتك أنت على التحمل تختلف قطعًا عن قدرتى أنا على التحمل؛ لأننى شخص ولأنك شخص آخر، وحِد أولاً مختلف الظروف بين شخصين وطابقها تمام التطابق بما فيها السمات الشخصية للاثنين ثم حدثنى عن عقد المقارنات كما شئت، ثم أخبرنى حينها ما ينبغى الحزن بسببه وما لا ينبغى أن يعلن القلب الحداد عليه، ناهيك أنه لا يمكن أن تقدم المساعدة للغير بالتسفيه مما يواجهونه ظنًا منك بأن محاولات تصغير الحزن تمحيه، الحزن لا ينمحى إلا بعد أن يستنفد وقته معنا، بل ومن الصحى أن نترك للحزن مجاله الطبيعى للمرور من داخلنا، أن نفسح له المجال ليسكننا بالكامل، حتى يغادرنا بالكامل، أما حالات تضليل أنفسنا بشأن بعض أحزاننا فمهما أظهرت جدواها وقتيًا تكن فى النهاية نتيجتها الحتمية وقوع مدوى، الأمر أشبه بما أخبرنى به صديق يومًا بأن الإنسان كأى مادة فيزيائية ما لم ينفّث عما يملؤه أولاً بأول فإن النتيجة النهائية الانفجار.


ربما أكثر طرق المواساة صدقًا هى فقط بالوجود وقت الحزن.. الوجود فحسب، بإمكان ضغطة على اليد أو تربيت علي الكتف أو ضمة إلي الصدر وقت البكاء أن تنتصر على كل الكلام وتدحضه، ربما الكلام هو آخر ما نحتاجه وقت البكاء، لا نحتاج صياغات مستهلكة وقت هشاشتنا لتمنع دموعنا، بل نحتاج ممرًا آمنًا نسير فيه مع أحزاننا بسلام إلى أن ترحل عنا،  ممر يُسمح لنا فيه بتفريغ  كل هذه الدموع، ربما صاغت صديقة الحالة بدقة في عزاء زوج صديقة آخري، حينما كان المعزون يحاولون إثناء صديقتنا عن البكاء على زوجها الراحل، التفتت حينها الصديقة الأولى لتخبرها: ابكى.. ابكى ما شئتِ من البكاء على زوجك، عبري عن حزنك بصورته الطبيعية ولا تلتفتى لما يقولون، ثم بدأت في التربيت علي يدها..بكت، بينما لم ينقطع تربيت الأولى على يدها، ربما هذا فقط ما نحتاجه وقت الحزن، مَن لا يقاوم طبيعتنا الإنسانية بمزاعم فارغة عن أن الحزن ضعف، ويسمح لإنسانيتنا أن تتجلى لينجلى معها الحزن بعد أن يمضي وقته الطبيعى معنا، ألم يتغنى محمد رحيم قائلاً : " وساعات بحّس إن البُكا غيمة..ينزل مطر ويطهر الإنسان"؟


ربما كل محاولات التحايل على الحزن تكون مبذولة من الآخرين بصدق حقيقى، لكنها للأسف تؤذى أكثر مما تفيد، ولذا لا استوعبها أحيانًا، لا استوعب أن اشتكى مثلاَ من إصابة ما فى يدى، لأجد من يخبرنى أن عينى سليمة، أنا لست ناقمة لنعمة البصر ليستدعى الأمر التذكير بها، لكنى أشتكى من يدى لأنها تؤلمنى، هذا تحايل على آلام يدى، وهكذا يكون التحايل على أحزاننا، المواساة الحقيقة وقت الحزن لا تكن بتقديم الحل وإنما فقط بافساح المجال لهذا الحزن لأن يعبر عن نفسه دون التحايل عليه أو التسفيه منه، المواساة الحقيقة تكون بافساح المجال لأن أتألم من يدى المصابة دون خوف من تصنيفى بأنى  ضعيفة لا اتحمل الألم، ودون مصادرة على حقى فى أن أتألم، وبتحمُل تصريحى بالألم إلى أن تشفى يدى.


السبت، 19 نوفمبر 2016

شوربة الخضار vs البانيه

تحول درامى فى الأحداث الحياتية ربما يصبح نقطة انطلاق لبداية مغايرة، ومن باطن كل محنة تولد منحة .


ربما تبدو البداية السابقة مبالغ فيها للغاية لوصف تجربة مرض صغيرة، قادت لبداية حقيقة نحو حب "شوربة الخضار"، ولكن  إن كنا نستمد الدروس الحياتية الكبيرة أحيانًا من أشياء صغيرة للغاية تقودنا إليها الصدفة، فإذًا  يمكننى التنظير حول شوربة الخضار بخشوع وتبتُل تقديرًا لكل تلك الدروس الحياتية التى لقنتنى إياها فى ليلة واحدة.


  • قضيت عمرًا كاملاً وأنا أنبذ شوربة الخضار، أرفض تناولها فى كل مرة توضع فيها أمامى على طاولة الطعام، تطلب منى أمى فقط أن أتذوقها لاختبر طعمها أولاً ثم أقرر بعدها تناولها من عدمه، وبحماقة المتعصب لرأيه دون موضوعية، كنت أتذوقها فقط بطرف لسانى لأوكد أنها بالفعل سيئة الطعم، فى الواقع لم أكن أعط الفرصة كاملة لمستقبِلات التذوق لتعمل كما ينبغى، أو كنت أتجاهل نتيجة عملها؛ لأن فكرة ما مستقرة فى ذهنى ولم أرد أن يثبت عدم صوابها.

            (اطلاق الأحكام النهائية القائمة على افتراض مسبق دون تجربة حقيقة.. حماقة)


  • بشكل ما، كنت اتصور أن شوربة الخضار عقاب، هى وجبة تُكتب للمرضى، أصبحت وجبة رئيسية فى منزلنا حينما أصيب والدى بالسكرى وأصبح نظامه الغذائى يتطلب وجبات محددة، ومن قبلها، كانت توضع على طاولة الطعام بمنزلنا فى كل مرة يصاب أحد أفراد الأسرة بأنفلونزا، ومع الوقت صار من المألوف أن تجد  شوربة الخضار بمنزلنا.  ظروف سيئة تعرفت فيها على شوربة الخضار، ظروف ظالمة لى ولها إن كنت أريد للتعبير أن يصبح أكثر دقة، إلا أن  المفاجأة بعد أن تناولتها تناوُل المضطر تحت ضغط اضطرابات بالمعدة، أن وجدت فيها راحة كبيرة  لمعدتى.. بل وطعمًا محببًا أيضًا، ويبدو أن للـ "كرفس" دورًا سريًا فى لذة الطعم.

               (قد يكون ما يريحنا أمامنا طول الوقت.. ولأننا اعتدنا وجوده لا نراه)


  • قبل أن تثور معدتى، كنت قد تناولت قطعة من " البانيه" الذى أحبه بشده ، ويبدو أنه كان سببًا فى إرهاق معدتى ومصارعتى التقلصات ليلة كاملة إلى أن انتشلتنى شوربة الخضار من الألم وأهدت معدتى الراحة، ربما كانت البانيه وجبتنى المفضلة على مدار سنوات عمرى الــ 29، كنت أتجاهل كل التحذيرات المحيطة بخطورة تناولها لتشبعها بالهرمونات، وبأضرارها على الكوليسترل لتشبعها بالزيت، كنت أتجاهل كل ذلك فى سبيل لذة وقتية يحققها لى الطعم، ومع الوقت تبين لى كيف  يؤذينى البانيه، وكيف أن كل لذة وقتية تجعلنا نغفل ما يستحق الوقوف عنده، تتحول لألم فى النهاية، بعد أن ينتهى مفعول اللذة.

          (كل متعة وقتية زائلة، ويبقى فقط مدى الراحة أو الألم كمحصلة حقيقية يمكن من خلالها تقييم تجاربنا)

                  

       

تحول درامى كحبى الوليد لشوربة الخضار كان جديرًا به أن يجعلنى أعى حقيقة أننا نتغير، نتغير بشدة مع الوقت، ولا يعنى ثباتنا على مبادئنا أن تكن أفكارنا كالأصنام جامدة، وإنما أن ننفتح على الأفكار الجديدة بمرونة، وبشجاعة لا تجعلنا نتنصل مما اعتقدناه مسبقًا، ربما الأمر أشبه بالمراجعات الفقهية، وبمراجعة فقهية توصلت إلى أنه صحيح  لا يمكن لشوربة الخضار مهما وفرت لى أسباب الراحة أن تصبح بالنسبة لى بانيه فى يوم من الأيام،  إلا أن الأذى الذى ألحقه البانيه بمعدتى، يُحتم علىّ إفساح المجال لإدخال شوربة الخضار إلى حياتى، فربما  يتعين علي المرء أحيانًا أن يبتعد عما يحب إذا ثبت له أنه يوقع الضرر عليه.

الثلاثاء، 25 أكتوبر 2016

بلوتو الدور الرابع 18- حتة ناقصة

عزيزى على.. 

صديق الفضاء الأقرب - بعكس المنطق- من بُعد المسافات والكواكب، صديقى القريب جدًا..البعيد جدًا


كيف حالك يا صديقى؟ 
كيف هى الأيام عندك فى بلوتو، هل صارت غريبة كما الحال لدينا على كوكب الأرض؟ لا أعنى بأن الأيام هنا صارت سيئة، وإنما هى فقط غريبة، لم تعد كما اعتدنا، ليست بنفس الطعم، تغيرت لنكهة لم اسستسغها بعد، فجأة تدرك أن القريبين لم يعودوا حولك، وأنك كالغريب وسط المحيطين، تمضى أوقاتًا لطيفة لكنك لا تستطع وصفها بالسعيدة، تضحك لكن دون أن يمس وجدانك أثر الضحك، وتبكى فى غير محل البكاء إن طاوعتك دموعك من الأساس،  تنخرط فى الأحاديث دون أن تشفى حاجتك حقًا من البوح، تستمع دون استمتاع حقيقى بما يٌقال،  وكأن كل شىء ينقصه شىء.


بإمكانك يا صديقى أن تُجرى بحثًا بسيرفرات رأسك - إن كان لك رأس- على فيلم Before Sunrise لتفهم ما أود أن أخبرك إياه، حينما أخبرت البطلة البطل بما معناه أنها قضت أوقاتًا لطيفة كثيرة مع أشخاص تستمتع بالفعل بصحبتهم، لكنها فى كل مرة كان يتسرب لها ذلك الإحساس بأنه ما كان يجب أن تكون هنا الآن.. فى هذا المكان.. أو مع هؤلاء الناس.

أتظن يا على أنها مشكلة الإنسان المعاصر كما حاول ذلك البوست الذى طالعته على فيس بوك مؤخرًا أن يحلل المسألة؟ قالت صاحبة البوست حينها أنه من الصعب مع كثرة الخيارات الحياتية التى أصبحت متاحة أمام المرء فى العصر الحديث أن يشعر مع تعددها بالرضا، وأن الخيارات البسيطة والمحدودة أمام المرء فى أزمنة أقدم، مع بساطتها إلا أنها كانت مُشبعة.. كانت مُرضية.

ربما أقنعتنى صاحبة البوست، حتى أننى وجدت الأمثلة تطل إلى رأسى لأدلل على ما تقوله، فاستحضرت فى ذهنى حالة مَن يشاهد قناة تليفزيونية معينة، ويفوته الإحساس بمتعة ما يشاهد؛ لأن ثمة شعور مُنغّص يشعرك بأن لابد وأن هناك ثمة ما هو أمتع مما تشاهد  يُعرض على قناة أخرى من ذلك العدد اللانهائى من القنوات، وربما ينتهى بك الأمر متجولاً بالريموت كنترول وسط بعض القنوات، لتشاهد شيئًا من هنا على شىء من هناك دون مشاهدة حقيقية ممتعة لشىء واحد بعينه.

أكتب لك ذلك ان وأنا يدور فى ذهنى تلك العبارة التى لا أذكر كاتبها؛ لرداءة ذاكرتى حينما قال: " كانت الخيارات محدودة، لكنها  كانت جميعًا تُسعدك".

لا أعنى ياصديقى أنها أزمة تكنولوجيا وحداثة، رغم أنها من المؤكد تُشّكل عاملاً، ولست ممن يتندمون ليل نهار على ما خرّبته فينا التكنولوجيا، رغم أنها بالفعل قد شوهت فينا الكثير ونالت من إنسانياتنا، لكنى لست ذلك الشخص الذى يمكن أن يُنكر اسهامتها العديدة فى حياتنا وتيسيرها لها، أنا فقط لا أظن الأمر محصورًا فى التكنولوجيا، ولا فى عدم الرضا فقط.

أظن المشكلة صارت يا صديقى فى نمط حياة مزعج لأقصى درجة يطحنك فى اليوم الواحد عدة مرات، يجعلك تلهث طوال الوقت، ضِف إلى ذلك المفاهيم الاجتماعية المحيطة التى صاحبت نمط الحياة هذا، ستجد أنك تُضغط فى نفس الوقت من مائة اتجاه متضاد، البعض يضغطك فى اتجاه تحقيق ذاتك على مستوى شخصى لأنه الأبقى، والبعض الأخر يضغطك فى اتجاه تحقيق ذاتك عمليًا لأنه أيضًا وللعجب الأبقى، والمحصلة أنك إن وقفت فى أى جانب ستشعر بأن ثمة شىء ناقص قد فاتك يوجد فى الجانب الأخر.

قِس ذلك على شتى شئون الحياة يا صديقى، ستجد أن نمط الحياة الضاغط الذى نعيشه يطالبك فى نفس الوقت بتحقيق كل شىء .. وحالاً، كذلك الكوميك الشهير لمحمد سعد - أحد فنانى كوكبنا- ، وهو غاضبًا على عبلة كامل  فى فيلم اللمبى مشيًرا لها بيده وهو يقول مهددًا: "لأ.. دلوقتى".

نلهث.. صرنا نلهث يا صديقى لنتمكن من تحقيق أكبر قدر ممكن من كل تلك الأشياء التى نُدفع دفعًا لتحقيقها تحت ضغط ضرورة أن تفعل، فأصبحنا نمر على كل شىء دون ارتواء من أى شىء.. دون إحساس حقيقى بالشىء.

ربما لذلك يا صديقى كتب مصطفى محمود -أحد مفكرىنا- قائلاً : "أريد لحظة انفعال.. لحظة حب.. لحظة دهشة.. لحظة اكتشاف..لحظة معرفة.. أريد لحظة تجعل لحياتى معنى، إن حياتى من أجل العيش لا معنى لها؛ لأنها مجرد استمرار"


دُمت بخير يا صديقى.. مرتويُا مما تود.. وبعيدًا عن اللهاث ومطاردة ما لا يستحق
                                                من كوكب الأرض.. مع تحياتى،،

الخميس، 29 سبتمبر 2016

بوسطة 4 - هَنا ويوسف وعلى

لم أستسغ يومًا مقولة " أعز الوِلد..وِلد الوِلد"، كنت أراها دومًا مجحفة وظالمة، بل كنت استشعر فيها شىء من الخيانة وعدم الوفاء، فكيف يمكن لأى أم أن تضع حبها الكبير لأبنائها جانبًا مقابل أطفال صغار لم تعِش معهم كما عاشت مع آبائهم؟
أفكر كثيرُا فى أن هذه المقولة موازية تمامًا لأن يتزوج أحدهم بزوجة ثانية فيحبها أكثر من زوجته الأولى، وتطل فى رأسى الجملة الشهيرة لماجدة زكى فى مسلسل الحاج متولى " دة أنا القديمة".
أما الآن..فإن كان يمكن أن أقيس هذه الجملة على حالة شعورية مماثلة، فإنه يمكننى تأكيدها، وأن أجزم بأن بها من الحب ما هو أكبر من الخيانة التى كنت أظنها تختبىء خلف كلمات المقولة.


 صغار ثلاثة قد لقننونى الدرس: هَنا ..ويوسف .. وعلى، وأكدوا لى أن حبهم الذى أظنه أحيانُا يفوق  فى قلبى حب أمهاتهم - صديقات عمرى - لا تشوبه شبهة الخيانة من قريب أو من بعيد، بعد أن وجدت نفسى فى ورطة التلبس بخيانة كتلك التى تنطوى عليها مقولة أعز الوِلد.


 شىء من الارتباك قد تسلل إلى قلبى بعد أن وجدتنى امتلىء بالتعلق بالصغار الثلاثة بصورة تجعلهم يطلون فى رأسى قبل أمهاتهم أحيانًا،  قضيت الليل وأنا أحاول فض هذا الاشتباك داخلى، إلى أن وصلت لتفسير يرضينى تمامًا، ويجعلنى أغيّر منظورى القاسى بشأن جملة " أعز الوِلد"، فببعض التدقيق تكتشف أنه لولا الحب للأصل لما أحببت الفروع بهذا القدر، تتعلق بهم لأنك ترى فيهم نسخًا مصغرة من آبائهم الذين أحببتهم أولاً، أى أن التورط فيهم لا يمثل خيانة للآباء وإنما هو إثبات أكبر على عمق المحبة.


صغار ثلاثة يزداد تورطك بهم كلما كبروا واستطاعوا تمييز شخصك، باتوا يعرفونك باسمك ويآلفوك، يهرولون عليك ليستقبلونك بأذرع مفرودة فى كل لقاء يجمعهك بهم، يسألونك فى نهاية كل خروجة: "مش هترّوحِى  البيت معانا ليه؟" ..يتبادلون معك قصصهم الطريفة بشأن الأميرة رابونزيل، وشجاعة سوبر مان،  هذا طبعًا فى حالة هَنا ويوسف، أما على الذى لم يجيد تركيب الكلام بعد فيكيفينى عناقه بيده الصغيرة حينما يألف كتفى ويجد فيه مساحة آمنة للنوم، أو إشارته بيده الصغيرة لى لأرفعه من الأرض، إذا خشى محاولة بعض الغرباء التودد إليه .


بوسطة اليوم ربما لا تجيدوا قرائتها يا صغارى، لكننى أكتبها رغمًا عن ذلك لتتمكنوا مستقبلاً من قرائتها، وتعرفون أن ثمة شخص فى زمن بعيد قد كتب لكم أول خطاب حب فى حياتكم، ولتعرفوا أن بسببكم بات قلبى الآن  ينخلع مرتين عند وداع أصدقائى السنوى لظروف السفر: مرة لفراق الأصول.. ومرة للفروع، ليبقى ما يطمئن القلب حقيقة أن الجذور ثابتة فى الأرض رغم المسافات.

 

الأحد، 18 سبتمبر 2016

بحب السيما *

(1)

بدأت القصة حينما اصطحبنا والد صديقتى لمشاهدة فيلم "تيتو".. كنت حينها فى الصف الأول الثانوى على ما أتذكر.
بكيت فى أثناء المشاهدة..بكيت كثيرًا، لا لموت البطل الذى كنت أعلم بشأنه قبل دخول الفيلم، حيث تطوعت صديقتى بحرق الأحداث، وهى تقترح دخول الفيلم: " عايزين ندخل تيتو.. السقا هيموت فى الآخر".. هكذا ببساطة.


فى الواقع كنت أبكى من قبل الاستراحة حتى، وواصلت البكاء لنهاية الفيلم، ربما لأننى كنت أعلم بموت البطل فى النهاية، فكنت أشعر بأن الخط الذى تتصور عنده أن الأحداث قد بدأت فى إنصافه بالعثور على الحب وبتوديع ماضى قاسى ماهى إلا خدعة مؤقتة، ثم سنستيقظ مرة أخرى عند النهاية والبطل مسلوب كل هذا إلى جانب حياته أيضًا، قِس ذلك على الحياة إجمالاً ثم ابكِ ما شئت من البكاء.


أذكر أن صديقاتى سخروا من بكائى كثيرًا يومها، لم يعتادوا رؤيتى أبكى، ثم فجأة يروننى أطيل البكاء وبدون داعى حتى، فبالبطل لم يمت بعد، حتى أنهم كانوا يمازحوننى قائلين: "هو أنتِ كنتِ من أطفال الشارع ومخبية علينا؟".


لم أبكِ يومها بسبب الفيلم على الإطلاق، وإنما كان الفيلم عاملًا مساعدًا لتحفيزى على البكاء، أو بالأحرى لتطهير روحى بالبكاء الذى عصانى طويلاً فى فترة لم أكن فيها نفسيًا على خير ما يرام.. ولهذا تمامًا بدأت أحب السينما؛ لأنها تحرك شيئُا ما فى إنسانيتك عبر شاشتها.


(2)
"تسهم ظروف التعرض للرسالة فى  تغيير مستوى التأثر بها".
 قاعدة تلقنتها فى أثناء دراستى للإعلام، وهى قاعدة بإمكانها أن تفسر لك لمَ قد ترتعد خوفًا من فيلم غير مخيف بدرجة مفزعة، لمجرد أنك كنت تشاهده وحدك بالمنزل مساءً.. ظروف التعرض التى جعلتك تشاهده بمفردك ليلًا تضخّم إحساسك بالخوف،.. تضخم إحساسك بالفزع من أى حركة مباغتة على الشاشة، القاعدة نفسها يمكن أن تنطبق أيضًا على استمتاعك بفيلم غير ممتع بدرج كبيرة لأنك تراه داخل السينما، حيث الإبهار المضاعف ..صوت مضخم..شاشة كبيرة.. مشاهدة لا يقطعها من يطلب منك إنجاز بعض المهام كما الحال فى المنزل، وقبل ذلك استعدادك نفسيًا للاستمتاع..فأنت ذاهب للسينما لتمضية بعض الوقت الممتع.


لهذا تمامًا امتد حبى للسينما، حيث كل شىء مضخم ومقدم لك بصورة مبهرة، حتى وإن أوقعك حظك العاثر فى دخول فيلم سىء القصة، يمكنك أن تستمتع حينها بالصناعة السينمائية، أما إن كان الفيلم أيضًا ردىء إنتاجيًا، تجد أنك تقع فى نوبة من الضحك الحزين على الفلوس التى تم إهداراها فى اختيار سىء كهذا.. تضحك للقاعدة الإعلامية السابقة نفسها..ألم تستعد نفسيًا قبل دخول الفيلم أنك ستقضى وقت ممتع، تمضيه بالفعل ولكن بطريقة آخرى غير التى توقعتها بأن يتسبب لك فيها جمال الفيلم، فتستمتع لرداءته، ربما للسبب نفسه كانت أكثر مرات ضحكت فيها فى السينما بسبب أننى لا أتخيل أن هناك سخافة إلى هذا الحد، تمامًا مثلما حدث حينما أصطحبنا والد صديقتى - نفس الشخص الذى أصطحبنا لدخول فيلم تيتو- لمشاهدة فيلم " خالتى فرنسا" ظنًا منه أن بالفيلم إسقاط سياسى كما فى حالة مسرحية " ماما أمريكا"، ثم انتهى الأمر بعمو نائمًا، وبى أنا وصديقاتى ندير ظهرنا للفيلم وننخرط فى تبادل الأحاديث، إلى أن انتهى اليوم بالفعل نهاية سعيدة  مازالت تضحكنا إلى يومنا هذا.


تهديك ظروف التعرض التى توفرها لك السينما فرصة لا بأس بها للاستمتاع، وسواء كان الفيلم جيدًا أو رديئًا تجد أنك استمتعت، وأن نبوءة الفنانة يسرا قد تحققت: " كدة ينفع وكدة ينفع".



(3)  
تضمن  مسلسل " وجه القمر" لفاتن حمامة ، مشهدًا لأحمد الفيشاوى، حينما أصطحب ياسمين جمال عبد الناصر إلى ذلك المكان المفتوح؛ لأنه لم يكن بخير ، ثم جعلها تجلس إلى جواره  ولم يتفوه بكلمه، صمتا طويلاً إلى أن تسائلت بما معناه: " هو أنت جايبنى هنا ليه واحنا ما قلناش كلمة بقالنا ساعة؟".
لا يمكننى أن أعبَر عن واحد من أكبر أسباب حبى للسينما إلا من خلال هذا المشهد، السينما هى تمامًا ذلك المكان المفتوح الذى بإمكانه أن يوفر لك صحبة صامتة، حينما تكون فى حاجة للصحبة والصمت فى الوقت ذاته، لأنك لست بخير.


كنت قد مررت أنا وصديقتى المقربة بفترة بها بعض الاضطراب غير المعلن بيننا، تلك الأوقات التى تعرف فيها أن شيئًا ما قد حاد عن مساره  الطبيعى، لكنك تفّضل تجاوز ذلك بانتظار هذا الوقت أن يمضى فحسب، لأن لا أسباب ملموسة لذلك الوضع الملتبس يمكن حلها، هو فقط وقت سخيف وعليك انتظار أن يمضى، حينها ذهبنا للسينما لأننا كنا فى حاجة لأن نمضى بعض الوقت سويًا دون أن نتحدث فى أى شىء، هربنا من اختيار أى مكان آخر قد يفرض علينا أن نواجه بعضنا، فوجدنا فى السينما الملاذ الآمن لصحبة تكفل لنا أن تكون كل واحدة بمفردها لكننا معًا فى الوقت نفسه، أن نصمت معًا- إن جاز التعبير- فى أثناء مشاهدة الفيلم .


انتهت ساعتى الفيلم، فوجدنا صخب الحديث يستعيدنا ونستعيده، تحدثنا عن الفيلم ثم مضينا لتناول الغداء، لنكتشف أن الوقت الثقيل بيننا قد انقضى، ألقى الفيلم حجرًا فيما قد ركد بيننا لفترة، وقتها أدركت أن السينما هى ملاذى حينما أفقد الشهية للكلام وأشتهيه فى الوقت نفسه.
كان الفيلم Eat.. Pray..Love على أى حال.


* عنوان التدوينة مقتبس من فيلم يحمل الاسم ذاته.


الأحد، 28 أغسطس 2016

ماركة مسجلة

 فى أولى حصص مادة " رياضة 2" فى الصف الثالث الثانوى، كان أستاذ المادة يكثر الثرثرة عن ابنته، لا أذكر اسمه، لكن تفاصيل وجهه منحوتة فى ذاكرتى، كما أن حديثه بفخر كبير عن ابنته التى التحقت بكلية إعلام المنيا  محفور أيضًا فى وجدانى.
كمراهقات لا يشغلها سوى موعد انتهاء الحصة لم نعر لقصته أى اهتمام، ليس فقط لأن وجودنا فى المدرسة لم يكن إلا تحصيل حاصل بعد اعتمادنا الأساسى على الدروس الخصوصية، وإنما لأنه سبق ودخل لنا "حصة احتياطى" فى العام السابق، وحكى لنا القصة نفسها: "ابنته.. وإعلام المنيا"، الفارق الزمنى بين المرتين سنة.. والمشترك فى المرتين شيئًا ما تلمسه فى وجهه، تلك الحماسة  التى تعلو وجهه.. لمعة العين نفسها.


أؤنب نفسى اليوم يا أستاذى الذى لا أذكر اسمه - وبعد عشرة سنوات من تلك الحصة- أننا كنا نتبادل الضحك بشأن حديثك المكرر، أما سبب تأنيبى لنفسى فقد علمتنى إياه السنوات، ضحكنا لأننا لم نكن نعى أو نُقّدر ما وراء لمعة العين وحماسة الحكى، ولأننا اختزلنا الأمر برمته بسطحية تامة فى كونك رجل تقدم به السن فأصبح يُعيد علينا الحكاية نفسها مرارًا.


أفكر بعد عشر سنوات من حصتك، فى منشور طالعته على فيس بوك، كتبت صاحبته: "بعد أن أصبحت أمًا ازداد حبى لأمى".. ربما هذا يا أستاذى هو سبب تأنيب ضميرى لسخريتى أنا وزميلاتى من حكايتك المكررة، لأننا لا نُقدر أى تجربة يخوضها الغير إلا بالمرور بما يوازيها.. بأن نعيش حالة شعورية مماثلة، أكاد أجزم إن صاحبة المنشور بعد أن أصبحت أمًا سامحت أمها فى قرارة نفسها على ما كانت تفعله الأم ويزعجها؛ لأنها بعد أن تسلمت راية الأمومة زال الغبار عن فهمها المحدود، فأصبحت أكثر تقديرًا لمجهودات أمها؛ لأنها مرت من الباب نفسه.. وخاضت التجربة نفسها.


هذه هى الفكرة العامة يا أستاذى، والتى أعادتك لذهنى بعد عشرة سنوات، بعدما وجدت نفسى أتحول لنسخة مصغرة منك، نسخة تعيد الحديث ذاته مرارًا وتكرارًا، لدى أيضًا موضوعاتى المكررة، وربما جدتى هى أول هذه الموضوعات، كتبت عنها مسبقُا أنها حكايتى التى لا أمّل أبدًا من ترديدها، لدى أيضًا بعض الأشياء والأشخاص فى حياتى بات الحديث عنهم " ماركة مسجلة"، ربما يتسلل إلىّ أحيانًا شعورًا بالابتذال لأننى أتحول فى بعض الأوقات لما يشبه شريط الكاسيت الذى تسمع فى كل مرة تضعه فيها فى الكاسيت نفس الكلام، ربما تنصرف أنت كمستمع عن الانتباه فى كل مرة لما هو مسجل على الشريط، لكن حتى عدم انتباهك لن يمنع المطرب من مواصلة أغنيته، نتحول أيضًا يا أستاذى لمطربين أحيانًا، يطربنا الحكى عمن يمسون القلب، فنشدو بالحديث عنهم، ننشد الأغنية نفسها مرارًا، وفى كل مرة نحكيها ببهجة المرة الأولى.. بنفس الحماسة ولمعة العين.


ربما أطمئن أحيانًا لأننى لم أتحول للعجوز الذى ينفر منه الناس بفعل حكاياته المكررة، حينما يقُدم لى عمرو دياب تفسيرًا للأمر بقوله: " أيوة أنا عارف إن كلامى عليها كتير".. بإمكانك يا أستاذى أن تستبدل محبوبة عمرو دياب، بكل ما ومَن تحب، ثم لا تلقِ بالاً للأمر حينما يكثر حديثك عنهم، واستمد من دياب ثقته وأعلنها مثله: " أيوة أنا عارف"، فمن حق  كل جميل يمر على القلب الاحتفاء به.

أما أنا فإن عادت بى السنوات عقدًا كاملاً، فلن أسخر منك أبدًا، وسأنصت تمامًا لك وأنت تحكى قصتك المكررة عن ابنتك التى التحقت بكلية الإعلام بالمنيا.



الجمعة، 12 أغسطس 2016

بوسطة 3- مها الديب وسمر صلاح

يُقال أن أكثر ما يعنى المرء لا يمكنه التعبير عنه، وأن لا كلمات تنصف صدق إحساس ما يُغلف القلب، ولهذا ربما تأخرت كتابتى إليكما.


ويُقال أن من أكثر الحماقات التى قد ترتكبها فى حق أحدهم أن تكتفى بصدق إحساسك له، أو بمعرفتك أنه فقط يعرف، دون أن تشدد على عمق محبتك وتؤكدها من حين إلى أخر، ولهذا أكتب إليكما.


بالأحرى ..لن أكتب إليكما.. ولكن عنكما.. أو عنا،  أكتب فقط لأوثق مراحل حياتية تجمعنا، وربما أكتب احتفاءًا بلقاء منتظر يجمعنا بعد سنوات هذّبتنا فيها المسافات.. ثلاث سنوات لم يجتمع ثلاثتنا فيهم، بعد أن كنا لا نفترق إلا للنوم، وثلاث حدود جغرافية مختلفة وقارتين، بعد أن كنا نجيد إقناع مُدرّسة الفصل إن " احنا موافقين نقعد تلاتة فى نفس الديسك محدش ليه دعوة".


ربما لا أحتاج سببًأ لتبرير لماذا أكتب عنكما الآن، سوى أننى فقط أردت ذلك، ربما لأننى مع الوقت يزداد إدراكى لأن الله قد مّن علينا برفقة آمنة، كنت أفكر فى ذلك بينما أتناول غدائى، أفكر لماذا امتدت صداقتنا لسنوات طويلة برغم أننا بالفعل ثلاث شخصيات مختلفة للغاية ، هل لأن ثمة ثوابت تجمعنا برغم كل تلك الاختلافات؟ .. تبدو الإجابة منطقية، تتباين شخصياتنا كثيرًا بالفعل، وتحيد لكن لا عن خط معين نتفق عنده دومًا، خطًا تذوب عنده كل الاختلافات، لكننى عند قرب انتهاء تناولى للطعام توصلت لإجابة أحسبها أكثر انصافًا، ويبدو أن المرء ينتظم تفكيره وهو غير جائع.


توصلت إلى أن واحدًا من أكبر أسباب استمرارنا كأصدقاء برغم المسافات والاختلافات وحتى الزعل، هى أننا نمثل" رفقة آمنة" لبعضنا البعض، نأمن الحديث لبعضنا البعض دون تشكيك فى احتمالية فهم خاطىء.. أو خوفًا على خصوصية قد تُنتهك، تبدأ الأحاديث عندنا وتنتهى عندنا دون حاجة للتأكيد على خصوصية أو حساسية الحديث.


 رفقة آمنة تثق معها وفيها، حتى وإن خذلنا بعضنا البعض أحيانًا فى تفاصيل صغيرة تسقط عنا سهوًا لا عمدًا، إلا أن ثقة عارمة تملؤنا بأن فى الأحداث الكبيرة الجوهرية نحن معًا حتى وإن  لم نكن معًا، حتى وإن كانت تفصلنا قارات، وأحمد الله أننا مررنا معًا بتلك التقلبات الحياتية التى جعلتنا نختبر صداقتنا عمليًا بعيدًا عن الكلام المطاط أو الشعارات الزائفة، وصولاً لأن أكتب هذا وأنا أعيه كحقيقة مؤكدة..لا كحروف أسطرها فقط على الكيبورد فى تدوينة.


أنهى غدائى، واغسل طبقى وأنا أفكر فى جمال كل مرة طال كل واحدة فينا " قفا حياتى" من نوع ما، فتهرع للتعبير عن حبها لنا وامتنانها لوجودنا فى حياة بعض، فما أن تبدأ إحدانا " الكونفرزيشن" بــ " أنا فعلاً بحبكوا ..وأنتوا من النعم اللى فى حياة الواحد"،  إلا وتعى الأخريات أن محور حديثنا سيكون عن عالم مخيف شرس صادفته صاحبة الرسالة فى يومها، على طريقة "أن أفضل وسيلة لمعرفة الناس الصح فى حياتك..إنك تقابل ناس غلط".

 هذا تمامًا ما أعنية بالرفقة الآمنة، دائرة العلاقات التى تأمن فيها نفسك وخصوصيتك وحديثك المتحرر من الخوف.. الأكتاف التى تستند إليها.. العقول التى تستوعبك حتى وإن لم تتفهمك بشكل كامل، لكنها تحرص على أن تستوعبك وتحتويك دون تسفيه مما تمر به، الأشخاص التى تنتهى عندها محاولات الجرى بعيدًا عن كل أولئك المخيفين فى هذا العالم القاسى.


ربما  أكون تجاوزت أمور كثيرة كان يمكن أن اكتبها عنكما، أمور تمتد لتشمل الحديث عن رفقة قاربت العشرين عامًا أو زادت قليلًا، وربما لم أتجاوزها وإنما  لأنه يصعب علىّ التوثيق لحياة كاملة فى تدوينة، وربما لأننى فى حاجة ماسة لكوب نسكافيه ما بعد الغداء.


                                                                                   


الثلاثاء، 9 أغسطس 2016

فى مثل هذا اليوم

لسبب خفى، شيئًا ما يربطنى نفسيًا بمطالعة ذكريات " الفيس بوك" التى يُذكرّك فيها الموقع بما كتبته فى مثل هذا اليوم منذ سنوات مضت، انتظر أن تنتصف الساعة لتدق الثانية عشرة صباحًا، أنبش فى الذكريات، وحينها فقط أشعر أننى " خلّصت الواجب" فيمكننى أن أنام، أما قبل مطالعتها فثمة شىء ناقص فى يومى.


أجاد مارك زوكيربيرج، حينما استحدث تطبيق On This Day، ذلك التطبيق المناسب تمامًا لضحايا النوستالجيا، إذ يُمكّنك من الامساك بلحظة مضت، يعيد الزمن إليك بالتكنولوجيا، ويعيد إحياء مشاعر بداخلك ارتبطت بتلك اللحظات بالتكنولوجيا، حتى تلك الذكريات ثقيلة الوقع على القلب التى يُعيدك لها، يظل لها سحرها الخاص، ربما هو سحر  تذكيرك بأنك بطل لاجتيازك أوقات صعبة بينما مازلت صامدًا.


أطالع التطبيق وابتسم فى داخلى، تسيطر على رأسى فكرة : " أنا كبرت.. كلنا كبرنا"،  لا طريقة الكلام هى نفسها، ولا الموضوعات أو الاهتمامات هى ذاتها، وربما فى بعض الحالات ولا هم نفس الأشخاص حتى، لا لأنهم تغيروا، بل لأن بعضهم أنهى مرحلة وجوده فى حياتنا ومضى فى طريق مغاير بعدما اختلفت بنا السبل.
 


تنظر لما كتبته من سنة أو سنوات على حسابك الشخصى، لتدرك أن التغيير يحدث حتى وإن لم تدرك أو تشعر به، ربما عبّر ذلك القول المأثور عن تلك الفكرة: "Isn't it funny how day by day nothing changes, but when you look back everything is different".. إذن فلنزعم كيفما شئنا أن لا شىء يتغير، لكن فى حقيقة الأمر فكل شىء فينا وحولنا يتغير، أو كما يُقال، فالتغيير هو الشىء الوحيد الثابت.


انظُر لما نشرته فى سنوات سابقة، ولما نشرته مؤخرًا، وأُدرك المعنى الحقيقى لجوهر التغيير الذى تتكفل الأيام بنحته فى شخصيتك، وربما هو التغيير الأجمل أثرًا فى نفسى، وذلك حينما تدرك كيف ازددت صلابة فى مواجهة الأيام، أنظر فى منشوراتى القديمة من تلك السنوات البعيدة فأجد الحزن يسيطر عليها، ولا اتذكر لما كنت بكل هذه الدراما، لا سبب جوهري أذكره.. لا مشكلة حقيقية، ربما هى طبيعة مرحلة عمرية،  ثم أنظر لمنشورات قريبة فأجدنى أضحك هنا.. وأغنى هناك، رغم أننى عاصرت أوقاتًا عصيبة للغاية تزامنت مع تلك المنشورات، فأدرك  أن  صمود المرء واختلاف استجابته على  بعض المعطيات الحياتية الدرامية من حوله هو أيضًا طبيعة مرحلة عمرية، وهو أحد أحب تغييرات هذه المرحلة إلى قلبى. 


وبقدر ما تؤكد ذكريات الفيس بوك ديناميكية الحياة وتغيراتها، بقدر ما تجعلنى أقف طويلاً أمام أولئك الثابتين بوجودهم على مر السنين.. أولئك الذين يكبرون معك سنًا وفكرًا، أولئك الذين لم تنعكس التغييرات على مكانتهم فى قلوبنا أو مكانتنا فى قلوبهم، هؤلاء الذين تقبلوا تغيراتنا وقبلوا بها، فقبلناهم وآلفناهم فى كل نسخة منهم، أتوقف أمامهم وأبتهل فى داخلى ألا يتحولوا فى يوم ما لذكرى، وأردد ما غناه آدم يومًا : " بكير نتذكر.. باقى عمر أكتر".


الثلاثاء، 12 أبريل 2016

بلوتو الدور الرابع 17 - الاستعانة بصديق

عزيزى على
                صديقى الفضائى من ذاك الكوكب البعيد، القريب جدًا بعكس ما تُقّره كل الحقائق والعلوم وحسابات المسافة والزمن.
                                                      كيف حالك يا صديقى؟ 

أكتب لك خطابى السابع عشر لأجرى معك دردشة حياتية تأخر كثيرًا أن نجريها وجهًا لوجه، هل لك وجهًا يا على؟ لا أظن انك كائن فضائى هلامى بلا وجه..أخبرتك مسبقًا أننى أتصورك كــ E.T، ، قد يصيب ظنى أو لا يصيب، لكن على أى حال لا أتصورك قبيحًا  أبدًا يا صديقى..أو بالأحرى لا يمكن أن أراك قبيحًا أبدًا، فبعض الأشخاص يُقّدر لنا ألا نراهم أبدًا بصورة سلبية مهما بدر منهم، ربما نتقبلهم لدرجة تقّبُل كل المزعج فيهم، لا أقصد أن تغفل عن رؤية السىء فيهم، بل تراه وتلمسه وتدركه، ثم لا يغير ذلك شيئًا فيك تجاههم.


المهم،

دعنى أدردش معك اليوم  فى فكرة أرّقتنى كثيرًا مؤخرًا، فلتعد  مج نسكافيه دافىء وتستعد للاستماع:


(1)

شاهدت منذ عدة شهور فى السينما ذلك الفيلم لبرادلى كوبر: Burnt، ولمسنى بشدة ذلك الخيط الإنسانى فى الأحداث، حيث كان البطل يريد أن ينجز كل شىء على النحو الأمثل..لا الأفضل فحسب، وفى الوقت نفسه فإن طلبه للمساعدة من الغير فى أى شأن حياتى، كان دومًا خياره الأخير والأصعب، هل تعرف يا صديقى معضلة أن تريد لكل شىء أن يتم بمثالية دون نواقص أو عيوب ..دون مساعدة أحد؟ لا لأنك لا تثق فى الأخرين..ولكن لأنك لم تعتد أن "تطلب"..وبالتبعية فالأخرين لم يعتادوا توقع أنك قد تحتاج للمساعدة.
 كنت أتابع الفيلم وأنا مشفقة بشدة على البطل، كنت أوّد حينها أن اقتحم الشاشة -على طريقة تصورات الطفولة بأن الأبطال موجودون داخل جهاز التليفزيون أو شاشة السينما- لإخباره أنى أعى تمامًا ما يعانيه.
على أى حال انتهى الفيلم بلجوء كوير لاختصاصية نفسية.


(2)

أتعرض لعدة نوبات صحية على مدار الثلاثة أشهر الأخيرة، فتداهمنى حالات إعياء شديدة..انخفاض فى ضغط الدم.. صداع.. اضطرابات فى النوم..وصولًا لفقدان الوعى كليًا مرتين، لا أخفى عليك يا صديقى قلقى على نفسى، ولا أخفى عليك أيضًا المردود النفسى السىء للأمر، شهران من تعاطى عدة فيتامينات ومقويات، إلى أن ذهبت للطبيب بالأمس، ليخبرنى بعد اطلاعه على الفحوصات أنى لا أعانى  من أى شىء صحى تمامًا، أقف أمامه مندهشة لأتسائل: " أومال أنا مالى؟"، ليبادرنى بالرد أننى أعانى من ضغوط عصبية انعكست على صحتى فأصابتنى بالإعياء، تقاطعه صديقتى التى اصطحبتنى رغمًا عنى للطبيب مؤكدة أننى لا أُنفّث عن أى ضغوط بشكل صريح، تشدد له على أننى أتعامل مع الضغوط بالصمت..بالصمت التام.
 طالبنى الطبيب أن  أعامل نفسى معاملة الأطفال- على حد تعبيره- وأن أشاهد يوميًا قبل النوم فيلم محبب..أو أن أفكر فى أمر مبهج،" طب والفيتامينات يا دكتور/ ملهاش لزمة" ...هكذا ببساطة!
كنت قبل مغادرة المنزل باتجاه الطبيب اسأل جدتى " عايزة حاجة يا تيتا؟"، فتجيبنى بدعوة صادقة " انشالله ما تعوزى حاجة من حد أبدًا".. أفكر عند الطبيب في دعوة جدتى وأظنها كانت تحتاج جملة إضافية " وما تتعبيش عشان انتى مش عايزة من حد حاجة".


(3)
تخبرنى صديقتى البشوشة دائمًا..المحبة للحياة رغم أوجاعها، بينما كانت صريعة لإحدى نوبات الإكتئاب أن محاولتها للعب كل الأدوار مرهق للغاية، بل فاشل جدًا على كافة الأصعدة، سواء عمليًا من حيث إمكانية التطبيق الفعلى، أو نفسيًا من حيث القدرة على الاستمرار والمواصلة بنْفس راضية.
استرسلت مضيفة أنها كانت تسعد سعادة حمقاء فقط من عدة سنوات مضت، حينما كانت تجد نفسها موكل إليها كثير من المسؤليات، سواء في عائلتها لكونها الابنة الكبرى، أو في أسرتها الصغيرة باعتبارها زوجة يمكن الاعتماد عليها، لتستيقظ بعد عدة سنوات من سعادتها الحمقاء على حالة من عدم القدرة على فعل أى شىء..كبير أو تافه.



هل وصلت لك يا صديقى الفكرة؟
نحن بشر يا على، مهما بدت قدرتنا على التحمل عالية إلا أننا " نازلين بأوبشن إننا بنتعب..عادى"، تضم أرواحنا القوة والضعف معًا،فلا يضيرك يا صديقى أن تضعف أو تستسلم لتعبك أو أن تصرح باحتياجك للمساعدة، أعرف أننا في مجتمع قاس للغاية ربما لا يتيح لك الفرصة كاملة لذلك، ولكن قد يكفينا ألا نقسو على أنفسنا بتحميلها ما لا تطيق، أما المثالية يا صديقي فدعنى أخبرك أنها مجرد كلام فارغ.. ترهات  تضغط بها نفسك لا أكثر، لتكتشف في النهاية أن " كله محصل بعضه"، وأن كل الطرق تؤدى إلى روما.

 درّب نفسك يا صديقي على تقبُل ضعفك وحاجتك للمساعدة..ودع المثالية جانبًا، وتذكر فقط أن بعض المسابقات لا يمكنك الفوز فيها إلا من خلال الاستعانة بصديق.

دمت بعيدًا عن كل إرهاق..وضعف ..وعوز يا صديقي.

                                                                 
                                                                                 من كوكب الأرض.
                                                                                    مع تحياتى،،









الاثنين، 7 مارس 2016

بوسطة 2 - منة عبد الحميد

عزيزتى منة :


 منذ الأمس وأنتِ تحتلين مساحة كبيرة فى رأسى بصورة لا أعلم لها دلالة أو مغزى محدد، أفكر فيك ثم أتوقف ثم أعاود التفكير، انشغل ببعض الشئون الحياتية، ثم أنشغل بك، إلى أن قررت أن أكتب لكِ فى إطار طقس كتابة الخطابات الذى بدأته مؤخرًا؛ لولعى الشديد بالخطابات من جانب، ولأنها فعليًا صارت وسيلتى الوحيدة الآن فى التواصل معك، بعد جملة ظروف منعتك تارة عن الكلام، ومنعتنى تارة أخرى من الأمر ذاته.


ربما طللتِ بشدة على رأسى مؤخرًا؛ لأن فكرة ما أحسبها قد تماست بينى وبينك فى الوقت نفسه، دعينى أشرحها لك يا صديقتى، فربما أصيب التفسير..تفسير الفكرة، وتفسير احتلالك لرأسى:


يحدث أحيانًا يا صديقتى أن تكون ردود الفعل أضخم مما يتطلبه الفعل نفسه، يجد المرء نفسه فجأة يستجيب بشكل عنيف في موقف لا يستدعى أبدًا تلك الاستجابة، ينتفض بشدة تجاه أمور يمكن في النهاية تصنيفها على أنها متكررة.

 والعنف يا صديقتى لا يعنى بالضرورة العدائية، وإنما فقط يعنى التدخل القوى من جانبه، كأن يختار المرء الانعزال التام عن كل من يعرفهم بمن فيهم من يألفهم حتى، أن يختار الصمت لغة لا يعرف سواها للتعامل مع كل المعطيات حوله.


هكذا نتصور يا عزيزتى..هكذا فقط نتصور.


نظن بتقييم نظرى من جانبنا أن رد الفعل مبالغ فيه وضخم، فى حين انه لا يكون هكذا أبدًا، كل ما فى الأمر أنه رد فعل طبيعى جدًا، لكنه فى غير موضعه لا أكثر،  وأحيانًا نحتاج رغمًا عنا ردود فعل قوية عنيفة وقاسية كهذه؛ لتحررنا من وطأة الضغوط، وتطهر أرواحنا من أثقال تُرهقها، ولم نفسح لها المجال للخروج من داخلنا، وقت كان ينبغى علينا أن نفعل، صمدنا فى أوقات لا تحتمل الصمود، لننهار فى أوقات لا تستحق الانهيار.


 هل تعرفى يا صديقتى ما يُقال عن أن أى انفصال بين اثنين لا يكون عادةً بشأن الخلاف الأخير، وإنما يكون لجملة خلافات طويلة قد يصدف أن أكثرها تفاهة آخرها، فتنتهى القصة برمتها،  ويظن الآخرون أن قصة كاملة انتهت بفعل أمر ساذج، بينما هى فعليًا قد انتهت بفعل عدة أمور جوهرية.. لا أجد تشبيهًا أكثر دقة من هذا لما أود قوله، أظننا قد وقعنا  مؤخرًا يا صديقتى لا بشأن أكثر الأشياء تفاهة، وإنما لأننا لم ننفث عن ضغوطنا فى موضعها الصحيح وقت  كان ينبغى لنا أن نفعل، لا أعنى أبدًا  أنكِ قد أخطأت فى استجابتك الأخيرة أو أن اختيارك بالابتعاد  قليلَا عن كل المألوف كان مبالغًا فيه، أو أن أًسّفه مما دفعك لهذا الاختيار، لا أعنى ذلك أبدًا يا صديقتى، بل أتفهمه تمامًا، ولكن لسبب ما لدى شىء من القناعة بأن استجابتك تلك جاءت فى غير موضعها.


أعرف أنكِ كنت فى حاجة ماسة وبالغة للانزواء بنفسك قليلًا، اُقّدر المساحات الشخصية يا صديقتى واحترمها، وأقّدر أنكِ فى هذا التوقيت كنتِ فى أشد الحاجة لذلك، لكننى غير قادرة على حسم أنكِ قد اخترتِ ذلك لظروف أخيرة مررتى بها، أزعم يا صديقتى أن اختيارك  كان الجزء الأكبر منه هو أنكِ شخصية صبورة فى التعامل مع الأمور كافة.. طويلة النفّس مع الحياة.. تعاند الاستسلام للحزن، شخصية قاومت كثيرًا، إلى أن حان وقت أن تأخذ هدنة من كل شىء، ففعلتْ فى أول موقف يتيح لها ذلك بعد كثير من الصمود.


 ربما قد أكون أخطأت التشخيص، ربما كلامى هذا ما هو إلا تنظير فارغ، ولكن لأننى أعلم أن فى نفوسنا أنا وأنتِ شيئًا يتماس فى نقطة منه، فربما ينطبق تفسيرى هذا عليكِ أنت الأخرى كما انطبق علىَ مؤخرًا،  أريد فقط يا صديقتى أن أخبرك أن لنفوسنا علينا حق كما أبداننا، لذا فلتأخذى حق نفسكِ كاملًا، لن أردد عليكِ كل الصياغات المستهلكة التى نبتذلها فى التعامل مع أوقات هشاشتنا، خذى وقتك وأعيدِى شحن نفسك.. لتعودى مرة أخرى كما عهدى بك دائمًا : منة الصبورة فى التعامل مع الأمور كافة.. طويلة النفَس مع الحياة.. التى تعاند الاستسلام للحزن.


أما ختام خطابى فسيكون بما وودت أن أخبرك به من السطر الأول : افتقدك :)