الجمعة، 2 مارس 2018

الخيط الرفيع *

(1)
تنشر صديقتي على حسابها الشخصي بموقع فيس بوك تدوينة بديعة، ذات أسلوب رائع في سرد تفاصيل وقوف فتاة فى المطبخ في إحدى الصباحات، ثم بعض التفاصيل التي تعكس شيء من ارتباك الفتاة الحياتي، اسقطت تفاصيل ارتباكها على ما يحيطها في المطبخ لتدمج الخاص بالعام، فأسرت قلبي بأسلوب يلمس بتفاصيله نقطة ما في أعماق القلب، تَرَكت تعليق يشيد بالتدوينة، فأرسلت  صديقتي رسالة تخبرني فيها أنها مترددة في إتاحة التدوينة لكل الأصدقاء على حسابها، استفسرت عن السبب، فاستطردت قائلة: " خايفة.. مابحبش حد يشوفني من جوة"، تعجبت حينها من خوفها الذي أفهمه جيدًا، ذلك الخوف الذي يسكننا جميعًا - باختلاف درجته- لأن يظل شىء ما في نفوسنا غير مرئي للغير، يخصنا وحدنا ولا يقربه أحد، وللعجب فإن تلك الرغبة يوازيها تمني لو بالإمكان أن نفصح عن ذلك الجزء غير المرئي للجميع لنكسر ذلك الحاجز بين مَن نكونه، ومَن نظهر به للعالم، ربما لذلك قيل أن رغبتنا في الاختفاء ما هي إلا رغبة فى أن يعثر علينا أحد، وربما لذلك أيضًا قيل أن في باطن كل شخص تعرفه، شخص لا تعرفه.



(2)
تقودني الصدفة لدردشة حميمية مع أستاذتي التي تكبرني بحوالي عشرين عامًا، ثم تقودني صدفة أخرى لاكتشاف أنها تهوى الكتابة، لكنها توقفت عنها منذ سنوات طويلة، رجوتها بأن تُطلعني على بعض مما كتبت، فتمنعت بخجل في البداية، ثم امتثلت لرغبتي في النهاية فجلبت لي بعض من كتابات الصبا في جلسة حميمية تالية، أبهرني إحساسها الرقيق على الورق، والذي يخالف ما تبدو عليه من جدية مفرطة في الواقع، أو ربما يحتاج لمن يراها بعين مختلفة في الواقع ليصل لذلك الشخص الرقيق في داخلها.. الحساس جدًا.

أسألها كيف لكِ أن تتوقفي عن الكتابة؟ تجيبني بشيء من الشجن: "بقى صعب أطّلع مشاعري"، ثم أسألها عن رأيها في بعض ما كتبته وأطلعت هي عليه فتجيبني بأن كتاباتي راقت لها؛ لأن مشاعري فيها متزنة، أخبرتني أن مشاعري حاضرة فيما أكتب، لكنه حضور "محكوم" أو ما وصفته بـــ "ماسكة مشاعرك كويس"، لأفكر بعدها هل أراوغ مشاعري كي لا تظهر صراحةً فيما أكتب؟ .. هل أسير أنا أيضًا على نهج أستاذتي: " صعب عليا أطّلع مشاعري"؟، هل يتطابق الأمر مع ما كتبه أحد الأشخاص يومًا بأن لكل شيء في الحياة "ديد لاين" بما فيها المشاعر والأحلام، ولذا بات من الصعب على أستاذتي التعاطي مع ما تشعر به كتابةً؟ ترى هل ينتهى تحفظنا في الكشف عن ذواتنا الحقيقية بمشاعرها وأفكارها وخواطرها إلى فوات "الديدلاين" ومن ثم فوات القدرة على أن يكون ظاهرنا كما باطننا؟ أو فوات فرص حقيقية تذهب بلا رجعة لأن وقتها قد فات، مهما كانت جميلة وصادقة ككتابات أستاذتي، وقياسًا عليها كل ما هو جميل وصادق نحرص على إخفاءه؟.



(3)
أتوقف كل مرة أشاهد فيها فيلم   "The shawshank redemption" عند ذلك المشهد البديع الذي ينتحر فيه ذلك العجوز بعدما خرج من السجن الذى قضى فيه عمرًا طويلاً، حتى استحالت عليه الحياة خارج أسواره فيقرر الانتحار، لكنه قبل أن ينتحر قرر أن يكتب على سقف غرفته:  Brooks was here،  أراد فقط قبل انتحاره أن يخبر العالم أنه مّرّ من هنا.

أتصور في كل مرة أرى فيها ذلك المشهد أن الكتابة وسيلة لتعريف العالم بنا، وأن التصريح بمشاعرنا كالكتابة، وسيلة لنخبر بها العالم عما مرّ بقلوبنا، وكذلك وسيلة لنخبر بها البعض أنهم قد مروا بقلوبنا، وكما أن الكتابة يصعب فيها أحيانًا التصريح مباشرةً عما نشعر به، فكذلك المشاعر يصعب علينا كشف الغطاء عنها، لتبقى في النهاية مرة استجمعنا فيها قدرتنا على التصريح عن ذواتنا بدواخلها.. أو عن مشاعرنا، شاهدًا على أننا مررنا من ذلك العالم، وعن شخصياتنا التي نخفيها.
غريب جدًا أن كل ما نخفيه يكون له اليد العليا في كل ما نظهره، ربما لذلك تكون تصرفاتنا  غير مبررة للغير؛ لأنهم يفسرون في ضوء الظاهر، بينما التفسير الحق يتمحور حول ما نُخفيه.



(4)
راسلتني صديقتي في المساء بنبرة سعيدة أكاد أسمعها عبر حروف الكيبورد، لتخبرني بأنها قد نشرت التدوينة للعامة "Public"، وأن ردود الفعل حول ما كتبت أبهجتها للغاية، لمست بهجتها بالفعل فيما فعلته صباح اليوم التالي، حيث راسلتني على غير العادة برسالة تنُّم عن تصالح مؤقت أبرمته صديقتي مع العالم بعد أن واجهته بشىء من شجاعة التصريح عن نفسها، فأرسلت لي: " صباح الفل".
جعلتني تلك الرسالة غير المألوفة من صديقتي أفكر في أنه قد يفصلنا عن التصالح مع العالم  تخطي حواجز خوفنا الوهمية، وبعض الشجاعة في ألا نُلجِّم مشاعرنا حتى وإن بدا ذلك أسلم، أو أن  ننجح في تمييز ذلك الخيط الرفيع الذى يفصل بين ذواتنا الحقيقية التي نحتفظ بها داخلنا، وما أخترنا أن يظهر منها للغير، ربما حينها  فقط نستيقظ مستقبلين العالم بصدور مفتوحة مرددين: صباح الفل.
 ولا أظن ذلك سهلاً على أي حال.


* عنوان التدوينة مقتبس من رواية لإحسان عبدالقدوس .