الخميس، 2 نوفمبر 2017

الحب فى زمن الكوليرا *

(1)

جلست مع بعض الأصدقاء نتناول الغداء في ذلك المطعم مساءً، وعلى بُعد أمتار قليلة طاولة تعلوها لافتة "محجوز"، وحولها بعض الأشخاص يرتبون لمناسبة ما، مر وقت قليل ثم اتضح الأمر، المناسبة عرض زواج رتَّبه أحدهم، ومعه بعض الأصدقاء لمساعدته، مر وقت إضافي ثم دخلت إلى المطعم فتاة مُعصبًّة العينين ترتدي فستانًا مزركشًا ويقودها إلى الطريق بعض الأصدقاء، بينما لافتة تضم بعض صورها هي والشاب (العريس) تُزين أحد حوائط المطعم، نزعت عصابة العينين.. رأت لافتة الصور.. رأته.. تقدم هو بالخاتم بعد أن جلس على إحدى ركبتيه، تضع هي يدها على فمها من فرط الدهشة، بينما الأصدقاء المحيطون يهللون ويصفقون ويطلقون صرخات حماسية.


كنت أنا وصديقاتى نسترق النظر من حين لآخر حفاظًا على خصوصيتهم، لكن الحدث فرض نفسه على المكان وجعل من المستحيل عدم متابعته، تسلل إليّ وقتها شعور بأن ثمة شيء اصطناعي فى تلك اللحظة.. شيء متكلف وغير حقيقي، كما لو أنه مشهد محفوظ مسبقًا يؤدي فيه كل فرد دوره بشكل آلي، فلا تشعر بعفويته أو صدقه، لكنني تجاهلت إحساسي وواصلت تناول الغداء، ولم يطمئن قلبي إلا بعد أن أبدت صديقاتي نفس الملاحظة، ضحكنا حينها متسائلين: هل كبرنا إلى حد أن تلك المواقف الرومانسية الكفيلة بإثارة إعجاب أي فتاة - بحكم أننا جميعًا كائنات عاطفية في النهاية- لم تعد تدهشنا، أم إن أصلاً مواقفًا مشابهة ليست رومانسية وإنما "صُوِّر" لنا كونها كذلك؟.



(2)
منذ عدة سنوات، نشرت صديقتي منشورًا لشخص ما على فيس بوك جاء فيه: "اللهم أرزقنا علاقة ما نضطرش ننشر تفاصيلها على ربوع السوشيال ميديا؛ علشان نثبت للناس قد إيه إحنا مبسوطين."


دار حينها بيني وبين صديقتي حوار شخصي عن مضمون المنشور، أخبرتني فيه أن عالم التواصل الاجتماعي ضاغط بشأن العلاقات، يُشعرك دومًابشكل غير مباشرأن ثمة شيء ما ناقص في علاقتك؛ لأن شريك حياتك لم يُعِّد لك مفاجأة كبيرة كتلك التي أُعِدت لفلانة ونشرتها على حسابها، أو لأن علاقتك خالية من المدح والتغزل فيك على الملأ أمام جمهور السوشيال ميديا كما يحدث في حالة علانة، أردَفَت صديقتي قائلة: "أمور كتلك تتسلل إلى قلبك لا شعوريًا فتشعرين أن علاقتك ينقصها شيء ما، بعد أن يُخيََل إليك أن كل العلاقات كما تبدو في الصور وفي منشورات فيس بوك وفى حكايات المحيطين حتى، في حين إن علاقتك ليست مثلهم، ويتطلب منك الأمر وقتًا - تحت وطأة الضغط السائد-لإدراك أن الحب ليس كما يصوروه".




(3)
 يقول دكتور أحمد خالد توفيق في كتابه قصاصات قابلة للحرق: "ليتنا أنا وأنتِ جئنا العالم قبل اختراع التليفزيون والسينما؛ لنعرف هل هذا حب حقًا أم أننا نتقمص ما نراه؟"


 أشعر دومًا أننا أبناء جيل مظلوم للغاية، ظاهريًا يبدو أننا نمتلك كل شيء، جيل التكنولوجيا والانفتاح على العالم، وربما هي مأساتنا في الوقت ذاته؛ لأننا نعيش مع مُدخلات ضخمة من المعلومات يصعب على أي عقل بشري استيعابها وكذلك يصعب تجاهلها، تعرف جيدًا كل الفرص التي تفوتك، تعيش في عصر سريع الايقاع.. استهلاكي..تغلب عليه المادة و"الشو" الاجتماعي، عصر "المنظرة" والإدعاء، حتى في الحب، عصر يتطلب منك دومًا أن تكون شخصًا مبهرًا، فلا مكان للعاديين، عصر معقد للغاية، لا ببساطة أزمنة مرت عاصرناها في حكايات مَن هم أكبر سنًا، وأظنهم كانوا أكثر رضاءً مع بساطة الاختيارات المتاحة، والمعرفة المحدودة.


 يمتد التعقيد ويلقي بظلاله على كل شيء.. في كل المجالات.. على كل المفاهيم والقيم بما فيها الحب، فصرنا أمام قوالب جامدة للحب مخلوطة بصبغة المادة: الحب هو أن يملأ عالمي بالمفاجآت.. أن يجعل من حولي يهللون ويصرخون من فرط الدهشة من تصرفاته الحالمة.. الحب هو أن يتغزل فيَ ليل نهار.. هو تلك البالونات التي أجدها على مكتبي في كل صباح.. هو أن يهديني كل ما يجول في خاطري ويعرفه دون أن أطلبه..هو ملاحقتى بالورود والشيكولاتة أينما ذهبت..هو السعادة الدائمة.. ألا نتشاجر أبدًا.. ألا أبكي بسببه أبدًا، صياغات تبدو مثالية لفترة المراهقة وصرنا نختزل فيها مفهوم عظيم يشمل معاني الحياة كافة، وكأننا فى زمن تفشى فيه وباء ما فأصاب المفهوم بالتشوه.




 ربما لا أمتلك صياغة مُثلي للحب، ولا أظن أن بإمكان أحد أن يفعل، لكنه قطعًا ليس تلك المشاعر السطحية المبتذلة غير المسئولة، ولا القوالب الاستهلاكية المراهقة التي تحاصرنا في كل مكان، ولا تلك الصور الذهنية غير الحقيقة التي تُصدًر لنا من قصص المحيطين..أو من السينما والأفلام والسوشيال ميديا، الحب مسألة شخصية بحتة تتعلق باثنين فقط دون أي مؤثرات خارجية يمكن الاستناد إليها للحكم على ماهية العلاقة أو توجيهها بقوالب نصائح جاهزة؛ لأنها تجربة متفردة..حالة خاصة بكل اثنين ولا يجوز تعميمها على كل الثنائيات.


كما إنه من غير المنصف تصدير الحب على أنه سعادة على الدوام؛ إذ أظن الوجع قوام أساسي للحب ويقترن به دومًا، لأنك تجد في أصغر تصرفات الطرف الآخر ما يمس قلبك مباشرةً، فتصيبك بالحزن تصرفات عادية جدًا بدرت منه، تستقبلها بشكل مُضخَّم لا يتناسب مع حقيقتها، وكذلك الحال مع كل تصرف صغير جميل، فيصبح الآخر محور كل فرح مهما تفه، ومحور كل وجع مهما سفه، على شاكلة ما تغنت به ذكرى:"أنت العذاب.. وأنت الهنا"، وأظنني لم أجد لوصف الحب أفضل مما سمعته من الإعلامية سناء البيسي على الراديو ذات يوم بما معناه: "الحب هو أعملك كوباية شاي؟/ هعمل أنا ونشربها فى البلكونه وتحكيلي عن يومك/ تسلم ايدك/ تسلم وتعيش".



أظن الحب أبسط مما نتصور.. لكنه معقد للغاية في الوقت نفسه، ولا علاج لذلك.



العنوان مُقتبس من رواية للكاتب  غابرييل غارسيا ماركيز، تحمل العنوان ذاته.