الأحد، 28 أغسطس 2016

ماركة مسجلة

 فى أولى حصص مادة " رياضة 2" فى الصف الثالث الثانوى، كان أستاذ المادة يكثر الثرثرة عن ابنته، لا أذكر اسمه، لكن تفاصيل وجهه منحوتة فى ذاكرتى، كما أن حديثه بفخر كبير عن ابنته التى التحقت بكلية إعلام المنيا  محفور أيضًا فى وجدانى.
كمراهقات لا يشغلها سوى موعد انتهاء الحصة لم نعر لقصته أى اهتمام، ليس فقط لأن وجودنا فى المدرسة لم يكن إلا تحصيل حاصل بعد اعتمادنا الأساسى على الدروس الخصوصية، وإنما لأنه سبق ودخل لنا "حصة احتياطى" فى العام السابق، وحكى لنا القصة نفسها: "ابنته.. وإعلام المنيا"، الفارق الزمنى بين المرتين سنة.. والمشترك فى المرتين شيئًا ما تلمسه فى وجهه، تلك الحماسة  التى تعلو وجهه.. لمعة العين نفسها.


أؤنب نفسى اليوم يا أستاذى الذى لا أذكر اسمه - وبعد عشرة سنوات من تلك الحصة- أننا كنا نتبادل الضحك بشأن حديثك المكرر، أما سبب تأنيبى لنفسى فقد علمتنى إياه السنوات، ضحكنا لأننا لم نكن نعى أو نُقّدر ما وراء لمعة العين وحماسة الحكى، ولأننا اختزلنا الأمر برمته بسطحية تامة فى كونك رجل تقدم به السن فأصبح يُعيد علينا الحكاية نفسها مرارًا.


أفكر بعد عشر سنوات من حصتك، فى منشور طالعته على فيس بوك، كتبت صاحبته: "بعد أن أصبحت أمًا ازداد حبى لأمى".. ربما هذا يا أستاذى هو سبب تأنيب ضميرى لسخريتى أنا وزميلاتى من حكايتك المكررة، لأننا لا نُقدر أى تجربة يخوضها الغير إلا بالمرور بما يوازيها.. بأن نعيش حالة شعورية مماثلة، أكاد أجزم إن صاحبة المنشور بعد أن أصبحت أمًا سامحت أمها فى قرارة نفسها على ما كانت تفعله الأم ويزعجها؛ لأنها بعد أن تسلمت راية الأمومة زال الغبار عن فهمها المحدود، فأصبحت أكثر تقديرًا لمجهودات أمها؛ لأنها مرت من الباب نفسه.. وخاضت التجربة نفسها.


هذه هى الفكرة العامة يا أستاذى، والتى أعادتك لذهنى بعد عشرة سنوات، بعدما وجدت نفسى أتحول لنسخة مصغرة منك، نسخة تعيد الحديث ذاته مرارًا وتكرارًا، لدى أيضًا موضوعاتى المكررة، وربما جدتى هى أول هذه الموضوعات، كتبت عنها مسبقُا أنها حكايتى التى لا أمّل أبدًا من ترديدها، لدى أيضًا بعض الأشياء والأشخاص فى حياتى بات الحديث عنهم " ماركة مسجلة"، ربما يتسلل إلىّ أحيانًا شعورًا بالابتذال لأننى أتحول فى بعض الأوقات لما يشبه شريط الكاسيت الذى تسمع فى كل مرة تضعه فيها فى الكاسيت نفس الكلام، ربما تنصرف أنت كمستمع عن الانتباه فى كل مرة لما هو مسجل على الشريط، لكن حتى عدم انتباهك لن يمنع المطرب من مواصلة أغنيته، نتحول أيضًا يا أستاذى لمطربين أحيانًا، يطربنا الحكى عمن يمسون القلب، فنشدو بالحديث عنهم، ننشد الأغنية نفسها مرارًا، وفى كل مرة نحكيها ببهجة المرة الأولى.. بنفس الحماسة ولمعة العين.


ربما أطمئن أحيانًا لأننى لم أتحول للعجوز الذى ينفر منه الناس بفعل حكاياته المكررة، حينما يقُدم لى عمرو دياب تفسيرًا للأمر بقوله: " أيوة أنا عارف إن كلامى عليها كتير".. بإمكانك يا أستاذى أن تستبدل محبوبة عمرو دياب، بكل ما ومَن تحب، ثم لا تلقِ بالاً للأمر حينما يكثر حديثك عنهم، واستمد من دياب ثقته وأعلنها مثله: " أيوة أنا عارف"، فمن حق  كل جميل يمر على القلب الاحتفاء به.

أما أنا فإن عادت بى السنوات عقدًا كاملاً، فلن أسخر منك أبدًا، وسأنصت تمامًا لك وأنت تحكى قصتك المكررة عن ابنتك التى التحقت بكلية الإعلام بالمنيا.



الجمعة، 12 أغسطس 2016

بوسطة 3- مها الديب وسمر صلاح

يُقال أن أكثر ما يعنى المرء لا يمكنه التعبير عنه، وأن لا كلمات تنصف صدق إحساس ما يُغلف القلب، ولهذا ربما تأخرت كتابتى إليكما.


ويُقال أن من أكثر الحماقات التى قد ترتكبها فى حق أحدهم أن تكتفى بصدق إحساسك له، أو بمعرفتك أنه فقط يعرف، دون أن تشدد على عمق محبتك وتؤكدها من حين إلى أخر، ولهذا أكتب إليكما.


بالأحرى ..لن أكتب إليكما.. ولكن عنكما.. أو عنا،  أكتب فقط لأوثق مراحل حياتية تجمعنا، وربما أكتب احتفاءًا بلقاء منتظر يجمعنا بعد سنوات هذّبتنا فيها المسافات.. ثلاث سنوات لم يجتمع ثلاثتنا فيهم، بعد أن كنا لا نفترق إلا للنوم، وثلاث حدود جغرافية مختلفة وقارتين، بعد أن كنا نجيد إقناع مُدرّسة الفصل إن " احنا موافقين نقعد تلاتة فى نفس الديسك محدش ليه دعوة".


ربما لا أحتاج سببًأ لتبرير لماذا أكتب عنكما الآن، سوى أننى فقط أردت ذلك، ربما لأننى مع الوقت يزداد إدراكى لأن الله قد مّن علينا برفقة آمنة، كنت أفكر فى ذلك بينما أتناول غدائى، أفكر لماذا امتدت صداقتنا لسنوات طويلة برغم أننا بالفعل ثلاث شخصيات مختلفة للغاية ، هل لأن ثمة ثوابت تجمعنا برغم كل تلك الاختلافات؟ .. تبدو الإجابة منطقية، تتباين شخصياتنا كثيرًا بالفعل، وتحيد لكن لا عن خط معين نتفق عنده دومًا، خطًا تذوب عنده كل الاختلافات، لكننى عند قرب انتهاء تناولى للطعام توصلت لإجابة أحسبها أكثر انصافًا، ويبدو أن المرء ينتظم تفكيره وهو غير جائع.


توصلت إلى أن واحدًا من أكبر أسباب استمرارنا كأصدقاء برغم المسافات والاختلافات وحتى الزعل، هى أننا نمثل" رفقة آمنة" لبعضنا البعض، نأمن الحديث لبعضنا البعض دون تشكيك فى احتمالية فهم خاطىء.. أو خوفًا على خصوصية قد تُنتهك، تبدأ الأحاديث عندنا وتنتهى عندنا دون حاجة للتأكيد على خصوصية أو حساسية الحديث.


 رفقة آمنة تثق معها وفيها، حتى وإن خذلنا بعضنا البعض أحيانًا فى تفاصيل صغيرة تسقط عنا سهوًا لا عمدًا، إلا أن ثقة عارمة تملؤنا بأن فى الأحداث الكبيرة الجوهرية نحن معًا حتى وإن  لم نكن معًا، حتى وإن كانت تفصلنا قارات، وأحمد الله أننا مررنا معًا بتلك التقلبات الحياتية التى جعلتنا نختبر صداقتنا عمليًا بعيدًا عن الكلام المطاط أو الشعارات الزائفة، وصولاً لأن أكتب هذا وأنا أعيه كحقيقة مؤكدة..لا كحروف أسطرها فقط على الكيبورد فى تدوينة.


أنهى غدائى، واغسل طبقى وأنا أفكر فى جمال كل مرة طال كل واحدة فينا " قفا حياتى" من نوع ما، فتهرع للتعبير عن حبها لنا وامتنانها لوجودنا فى حياة بعض، فما أن تبدأ إحدانا " الكونفرزيشن" بــ " أنا فعلاً بحبكوا ..وأنتوا من النعم اللى فى حياة الواحد"،  إلا وتعى الأخريات أن محور حديثنا سيكون عن عالم مخيف شرس صادفته صاحبة الرسالة فى يومها، على طريقة "أن أفضل وسيلة لمعرفة الناس الصح فى حياتك..إنك تقابل ناس غلط".

 هذا تمامًا ما أعنية بالرفقة الآمنة، دائرة العلاقات التى تأمن فيها نفسك وخصوصيتك وحديثك المتحرر من الخوف.. الأكتاف التى تستند إليها.. العقول التى تستوعبك حتى وإن لم تتفهمك بشكل كامل، لكنها تحرص على أن تستوعبك وتحتويك دون تسفيه مما تمر به، الأشخاص التى تنتهى عندها محاولات الجرى بعيدًا عن كل أولئك المخيفين فى هذا العالم القاسى.


ربما  أكون تجاوزت أمور كثيرة كان يمكن أن اكتبها عنكما، أمور تمتد لتشمل الحديث عن رفقة قاربت العشرين عامًا أو زادت قليلًا، وربما لم أتجاوزها وإنما  لأنه يصعب علىّ التوثيق لحياة كاملة فى تدوينة، وربما لأننى فى حاجة ماسة لكوب نسكافيه ما بعد الغداء.


                                                                                   


الثلاثاء، 9 أغسطس 2016

فى مثل هذا اليوم

لسبب خفى، شيئًا ما يربطنى نفسيًا بمطالعة ذكريات " الفيس بوك" التى يُذكرّك فيها الموقع بما كتبته فى مثل هذا اليوم منذ سنوات مضت، انتظر أن تنتصف الساعة لتدق الثانية عشرة صباحًا، أنبش فى الذكريات، وحينها فقط أشعر أننى " خلّصت الواجب" فيمكننى أن أنام، أما قبل مطالعتها فثمة شىء ناقص فى يومى.


أجاد مارك زوكيربيرج، حينما استحدث تطبيق On This Day، ذلك التطبيق المناسب تمامًا لضحايا النوستالجيا، إذ يُمكّنك من الامساك بلحظة مضت، يعيد الزمن إليك بالتكنولوجيا، ويعيد إحياء مشاعر بداخلك ارتبطت بتلك اللحظات بالتكنولوجيا، حتى تلك الذكريات ثقيلة الوقع على القلب التى يُعيدك لها، يظل لها سحرها الخاص، ربما هو سحر  تذكيرك بأنك بطل لاجتيازك أوقات صعبة بينما مازلت صامدًا.


أطالع التطبيق وابتسم فى داخلى، تسيطر على رأسى فكرة : " أنا كبرت.. كلنا كبرنا"،  لا طريقة الكلام هى نفسها، ولا الموضوعات أو الاهتمامات هى ذاتها، وربما فى بعض الحالات ولا هم نفس الأشخاص حتى، لا لأنهم تغيروا، بل لأن بعضهم أنهى مرحلة وجوده فى حياتنا ومضى فى طريق مغاير بعدما اختلفت بنا السبل.
 


تنظر لما كتبته من سنة أو سنوات على حسابك الشخصى، لتدرك أن التغيير يحدث حتى وإن لم تدرك أو تشعر به، ربما عبّر ذلك القول المأثور عن تلك الفكرة: "Isn't it funny how day by day nothing changes, but when you look back everything is different".. إذن فلنزعم كيفما شئنا أن لا شىء يتغير، لكن فى حقيقة الأمر فكل شىء فينا وحولنا يتغير، أو كما يُقال، فالتغيير هو الشىء الوحيد الثابت.


انظُر لما نشرته فى سنوات سابقة، ولما نشرته مؤخرًا، وأُدرك المعنى الحقيقى لجوهر التغيير الذى تتكفل الأيام بنحته فى شخصيتك، وربما هو التغيير الأجمل أثرًا فى نفسى، وذلك حينما تدرك كيف ازددت صلابة فى مواجهة الأيام، أنظر فى منشوراتى القديمة من تلك السنوات البعيدة فأجد الحزن يسيطر عليها، ولا اتذكر لما كنت بكل هذه الدراما، لا سبب جوهري أذكره.. لا مشكلة حقيقية، ربما هى طبيعة مرحلة عمرية،  ثم أنظر لمنشورات قريبة فأجدنى أضحك هنا.. وأغنى هناك، رغم أننى عاصرت أوقاتًا عصيبة للغاية تزامنت مع تلك المنشورات، فأدرك  أن  صمود المرء واختلاف استجابته على  بعض المعطيات الحياتية الدرامية من حوله هو أيضًا طبيعة مرحلة عمرية، وهو أحد أحب تغييرات هذه المرحلة إلى قلبى. 


وبقدر ما تؤكد ذكريات الفيس بوك ديناميكية الحياة وتغيراتها، بقدر ما تجعلنى أقف طويلاً أمام أولئك الثابتين بوجودهم على مر السنين.. أولئك الذين يكبرون معك سنًا وفكرًا، أولئك الذين لم تنعكس التغييرات على مكانتهم فى قلوبنا أو مكانتنا فى قلوبهم، هؤلاء الذين تقبلوا تغيراتنا وقبلوا بها، فقبلناهم وآلفناهم فى كل نسخة منهم، أتوقف أمامهم وأبتهل فى داخلى ألا يتحولوا فى يوم ما لذكرى، وأردد ما غناه آدم يومًا : " بكير نتذكر.. باقى عمر أكتر".