الأربعاء، 22 يوليو 2015

ذا الشعر الفضى

كنت أمر عليه يوميًا في طفولتي..بيته قابع في ذلك الشارع المؤدي للمكتبة التي اعتدت تمضية أجازة الصيف مشارِكة في انشطتها..عجوز في الستينات أو السبعينات ربما، شعره أبيض أقرب إلى الفضي، زحف شعره ليتراجع عن مقدمة الرأس بفعل الصلع والزمان، يرتدي عادةً تلك البيجامة ذات الخطوط الطولية، وبنظارته السمكية وانحناءة ظهره يجلس علي كرسي البلكونة ليقرأ من المصحف وِرده اليومي ليطّهر روحي أنا بمجرد النظر إليه، وكأن خيط سحرى يسرى فى الهواء ممتدًا من بلكونته واصلاً لتلك النقطة البعيدة فى روحى ليصيبها مباشرًة بتأثير ومفعول التلاوة المُسكّن، مشهد يومى مهيب رغم بساطة تفاصيله..مشهد  كان جديرًا بأن يلمس أبعد نقطة في قلبي ويغمر روحي بسلام وجداني عميق لسبب لا أعلمه ليومنا هذا.


أطلقت عليه أنا وصديقاتي اسم " جدو "..

كنا نسير سويا نثرثر ونملأ الشوارع بصخب طفولي.. ولا إراديًا، وبمجرد أن نمر تحت بلكونته  ننظر إليه في شئ من الجلال،  يتراجع صخبنا وتحل السكينة محله في لحظات قليلة من الصمت، ثم نواصل بعدها ثرثرتنا..ونستعيد صخبنا ويستعيدنا..
مشهد يومي متكرر: نلتقي..نثرثر..نمر تحت بلكونته..ينقطع حديثنا..ننظر لبلكونته وكأننا نطمئن عليه، ثم نمضي فى طريقنا.


لا أذكر أنه التفت إلينا يومًا، كأنه يذوب تماما في المصحف وينفصل عن العالم فلا يري ولا يسمع ولا يشعر بشيء آخر خارج حدود  عالمه .. ذلك العالم الفسيح رغم أنه حسابيًا محصور فقط في كرسي ومنضدة صغيرة و بلكونة " كام متر" ، ولكني كنت أحسه كذلك، عالم فسيح وجميل ومبهج، وبه شئ من الغصة أيضًا..غصة أن نراه يوميًا وحيدًا في بلكونته..يقرأ في المصحف..أو يتناول إفطاره بمفرده إذا تأخرنا بعض الشئ ولم نلحق بتلاوته للقرآن.


لا أعلم كم سنة مرت علي ذلك على وجه الدقة..خمسة عشر أو عشرين..أو أكثر أو أقل..لا أعلم ولا أهوى الحسابات التى تؤكد لى مرور زمن ليس بقليل على أوقات كانت جميلة..فى الواقع أخشى الدخول فى دائرة الحسابات تلك، فقط أتجاهل الأرقام وأحتفظ بالذكرى الجميلة تجنبًا للفزع من فكرة سرعة مرور الأيام، لا أعلم كم سنة انقضت على ذلك..كل ما أعلمه جيدًا أنني حينما مررت مؤخرًا من ذلك الشارع، سبقني بصري رغمًا عنى إلى البلكونة .. لم أجده، خلا الشارع من صخب الطفولة..ومن صديقاتي..انطبق صدري بعض الشئ وكأنني كنت منتظرة أن أعيش المشهد القديم فلاش باك ولكن آلة الزمن أصابها عطل مفاجى فأنطبق صدرى.


   بدت البلكونة أضيق من المعتاد وكذلك الشارع، ربما لأننا كنا صغار فكانت تتسع المساحات وتتضخم أمام ضآلة أجسادنا..وربما لأنها كانت أيام تضفي براحًا علي كل شئ مهما كانت وحشته فكنت أرى البلكونة واسعة بحجم الكون..كونى الصغير آنذاك على الأرجح..انقضت تلك الأيام فذهب البراح وبقت الوحشة..ربما