السبت، 27 أكتوبر 2018

لغز الحنية


ربنا يحنن قلوبكوا على بعض دايمًا"

كانت دعوة جدتي التي طالما اندهشت منها؛ لأن تصوري المحدود حينها كان يُخيِّل لي أن دعوة كتلك تناسب أشخاص في حالة خلاف فتستجديهم الدعوة لأن "تحن القلوب على بعضها"، ويذيبوا خلافاتهم وينبذوها، أما أن تردد جدتي تلك الدعوة وتكررها في أوقات عادية تمامًا ولأشخاص لا خلافات بينهم، فكان أمرًا يستوقفني دومًا، لا لدرجة أن أستفسر عنه، كان مجرد توقفًا عابرًا فحسب، ولو كنت أعلم أن كل ما يدور في رأسنا من أسئلة أمرًا ينبغي ألا يقبل التأجيل لسألت فورًا، لو كنت أخذت بنصيحة إبراهيم أصلان التي دونها في كتابه "حجرتان وصالة" حينما كتب: "أي سؤال يشغلك أسأليه"، لكنت استفسرت من جدتي؛ لاستخلص الحكمة مبكرًا، ولأسّد على نفسي بوابات الحيرة والتخمين والتكهن، وهي أقسى بوابات قد يعبرها المرء بمفرده.

لم أسأل فرحلت جدتي ومعها سر الدعوة، تمامًا كحال كل أسئلتنا التي تؤرق أذهاننا وتأكل من أرواحنا، لا لأن لا إجابة لها، وإنما لأننا أحيانًا لا نبذل محاولات جادة من أجل أن نهتدي لإجابة، ربما لأننا أجبن من أن نتحمل الإجابة في أحيان أخرى، أو لأن دور التائه المُعذَب يعجبنا تقمصه، وكل سؤال بلا إجابة تيه، ألا يُقال أن الهُدى هو أن تهتدي للحيرة؟

  ومع الوقت بدأْتُ في الفهم، وبدأَتْ الإجابة على سؤالي بشأن معنى دعوة جدتي تتضح.. بدأ لغز الحنية يتكشف، فعرفت أني كنت محدودة الرؤية، وأن جدتي كانت أحكم من رأيت في حياتي.


(1)
أطالع ذلك المنشور على فيس بوك الذي يقول صاحبه: "ربنا يرزقك بحد ما تهونش عليه"، فأعي جيدًا إن جوهر أعمق العلاقات الإنسانية قائم على الحنية، على ألا تهون على الآخر أبدًا وألا يهون عليك، على أن نلتزم في خلافاتنا بالبعد عن الغلظة والقسوة على أحدنا الآخر، ألا نعاقب بعض، وأن نتنازل عن أنانيتنا في أوقاتنا العادية فنهدي أحبابنا من وقتنا، نستمع لقصصهم..نبادلهم الحكايات.. نشاركهم ما يحبون ولو لم نحبه، كان المعنى الضمني للمنشور أن يرزقك الله في طريقك بمن يتخذ اللين دستورًا في تعاملاته معك في كل الأوقات.. وكان ذلك أيضًا معنى دعوة جدتي.


(2)
تستقر تلك الصورة -التي طالعتها مرة على فيس بوك- في مخيلتي وأراها فائقة الجمال رغم بساطتها، في الصورة رجل وامرأة يبدو على ملامحهما أن خلافًا قد نشب بينهما، وينهمر المطر فوق رأسيهما، والرجل رغم غضبه يضع شمسيته فوق رأس المرأة لحمايتها من المطر، أُمعن النظر في الصورة فأدرك أن الشمسية لا تقي المرأة من المطر فحسب بل تقيها الإحساس بالهوان والإهمال، الشمسية لم تهديها حماية من قطرات المياه، بل أهدتها حنان في أوج الخلاف..في الصورة كانت ترجمة لدعوة جدتي.


(3)

أتذكر ملحوظة عابرة قالتها أمي منذ سنوات بعيدة للغاية، في حكاية عن خلاف بين زوج وزوجة في محيط معارفنا، امتنعت وقتها الزوجة عن إعداد الطعام لزوجها وأطفالها؛ لشجار اندلع بينها وبين زوجها، فكان العقاب أن لا غداء لك ولا لأطفالك، توقفت أمي عند ما فعلته الزوجة مستنكرة قسوة قلبها، أستعيد ملحوظة أمي بعد سنوات، فأجد في استنكارها لما فعلته الزوجة ترجمة لدعوة جدتي.


(4)
في سفري مع صديقاتي، نتقاسم المهام بيننا، غسل الصحون، إعداد وجبات الفطور، لم المائدة بعد الغداء، تبدو كل الأمور أسهل وهي موزعة على أطراف تعيش معًا، لكنني كنت أسعد حينما أجد إحدى صديقاتي تباغتني بكي ملابسي بعد الانتهاء من ملابسها، وكذلك كنت ألمس نظرات الامتنان في عيون صديقاتي إن فعلت ما هو أزيد عن المفروض علي..لا بأس بغسلي الصحون رغم إعدادي للفطور، لا بأس بأن نقدم المزيد طالما نستطيع، وطالما أن مَن نقدم له المزيد يقابل ذلك بالامتنان والتقدير، لا إنه شيء واجب أو من المسلمات، أراجع تصرفات كتلك بيني وبين صديقاتي، فأجد ترجمة لدعوة جدتي.


أمِد الخط على استقامته في شتى العلاقات الإنسانية.. أُمعن النظر في تلك التصرفات الدافئة، فأجدها على قدر بساطتها عماد قوي لاستمرار العلاقات، يأتيني في خلفية رأسي صوت وردة الشجي وهي تغني: "الحنية..طب فين هي..ابكي يا قلبي على الحنية"، فأؤمن بأن الحنية كنز فقدانه يستدعي بكاء القلب، وأن الحنية لغز مَن يفك شفراته ينعم بعلاقات إنسيابية دافئة مع أحبابه، لأفهم الآن..الآن فقط، أن جدتي كانت تدعو لنا بما هو أثمن من النعم المادية الملموسة..بقلوب لينة تحن على أحبابها، ولا تتخذ القسوة إليها سبيلاً.