السبت، 31 مارس 2018

قضية عم أحمد


في كل مرة أفعلها أتخيل نفسي في موقف موازي لذلك المشهد من فيلم رسائل البحر، حينما كان آسر ياسين يظل واقفًا تحت تلك النافذة هائمًا مع العزف المنبعث منها.. لم ير أبدًا مَن يعزف، ولم يهتم بأن يراه، فقط كان ينتظر العزف، ثم في تبتُّل وخشوع يقف للاستماع مُحلِّقًا بقلبه في عالم آخر تخلقه الموسيقى.
أنا أيضا أقف بخشوع وتبتُّل  وأنا استمع لتلك الأنامل الصغيرة التي لم أرَ صاحبها قط، يأتيتي الصوت منطلقًا من المدرسة الابتدائية التي أسكن إلى جوارها.. فيذوب قلبي.



طالما استيقظت على أصوات مُنبعثة من تلك المدرسة، تلاصق غرفتي فصولها دون رؤية واضحة للفصول، لكن الصوت يأتيني كما لو كنت تلميذة بها.
استيقظ  دومًا على صوت التلاميذ وهم يصيحون بحماسة بالغة: "وعليكم السلااااام ورحمة الله وبركاته يا ميس إيماااااان" .. يرددونها بذلك  اللحن المميز للجملة في كل المدارس المصرية، فأّسب في سري نظام التعليم المصري بأكمله، بعد أن استيقظت - من نوم يصعب استغراقي فيه- في فزع.


لا أعرف لما استيقظ على حصة ميس إيمان تحديدًا، انشغل ذهني بالأمر، حتى أنني قضيت أحدى ليالي الأرق أفكر في الأمر جديًا، لماذا يعلو صوت الطلاب دومًا في حصة ميس إيمان دون غيرها؟ لماذا لا استيقظ على صوت التلاميذ في طابور الصباح مثلاً، وهو يجمع طلاب المدرسة جميعهم وبالتالي - وبالمنطق- فلابد أن يكون صوتهم أعلى من صوت طلاب فصل ميس إيمان؟ لماذا أصلاً يوقعنا الحظ في السكن إلي جوار طلاب مدرسة استيقظ فزعة بسببهم؟.. ثم تبخرت الأسئلة حين غلبني النوم قبل أن أهتدي لإجابة مريحة.

صحيح إنه في بداية انتقالنا للسكن في هذه الشقة كانت ضوضاء تلاميذ المدرسة تسبب لي بعض القلق، إلا أنني الآن صرت آلف الأمر..آلف صوت التلامذة الجهوري، وصوت حفلاتهم الصاخبة وضجيجهم المزعج، ربما يتشابه الأمر مع ما يُقره علم النفس بأن علاقة ألفة من نوع ما تنشأ مع الوقت بين الخاطف والضحية، وهم قطعًا يخطفون مني النوم

ميس إيمان؟ استقر في ذهني أن الطلاب إما يحبونها جدًا فيستقبلونها بحماس، وإما يخافونها جدًا فيستقبلونها بحماس، فلم أعاود التفكير في الأمر مرة ثانية


صارت كل ضوضاء المدرسة مألوفة، حفل عيد الطفولة.. وحفل يوم اليتيم.. وتلك الحفلات التي تجعلني اتسائل في دهشة: "هو النهاردة عيد إيه؟" ولم أعرف أبدًا، إلى أن توقفت عن التساؤل،  "هي حفلة في المدرسة وخلاص"..اعتدت الأمر،  آلفت كل الضوضاء المنبعثة من ذلك المبنى، ومع التعود تبدو الأشياء المزعجة أقل إزعاجًا بعكس انتفاضة المرء منها في المرة الأولى.

 تعودت فحسب على تلك الأصوات، لكن صوت واحد فقط  كنت أحبه ..لا آلفه بفعل التعود، وإنما أحبه بالفعل، صوت أنامل صغيرة تدق على الأكسليفون مقطوعة قضية عم أحمد لعمر خيرت، ربما عازف صغير.. أو عازفة صغيرة، لا أعرف..لم أرَ، ولم أهتم بأن أرى، فقط أهرع إلى البلكونة الصغيرة في غرفتي، التي تجعلنى أقرب ما يكون من المدرسة، واستمع..استمع بتبتُّل وخشوع، ويحلِّق قلبي بعيدًا في عالم سحري يتشكل مع ضربات الأكسليفون، يأخذني الصوت تارة لأيام ابتدائي حيث تعلمت لفترة العزف على الأكسليفون، فاسترجع مع العزف الصورة ..تلك الصورة من الزمن البعيد، أراني بيونيفورم المدرسة..اسمع ضوضاء "حوش" مدرستي، وأرى أصدقاء الطفولة ومستر أيمن عازف الموسيقى وهو يدربني على العزف، وتارة أخري تأخذني دقات الأكسليفون لتخيل أنني أحضر حفل موسيقي ضخم في مسرح مهيب..اتصور ماذا سأرتدي، ومَن سيصحبني..وكيف ستكون أجواء الحفل، ابدأ في التمايل من فرط الذوبان مع الموسيقى.. ومن فرط التخيل.


انتظر العزف الذي يأتيني على مر أسابيع متقطعة، فأهرول إلى البلكونة استمع في بهجة طفولية حمقاء، نفس المقطوعة في كل مرة: قضية عم أحمد، نفس دقات الأكسليفون..نفس الجزء من المقطوعة..ثم صمت،  لا أحد يصفق..لا تصفيق يصاحب العزف..ولا تصفيق يشجع بعده، في كل مرة تُعزَف المقطوعة، تكن لي نفس الملاحظة: لا تصفيق!


هذا عزف تلميذ أو تلميذة لا جدال، لا يمكن أن يكون لأستاذ الموسيقى مثلاً، تلك الدقات المرتبكة التي تتعثر أحيانًا فتفقد اللحن ثم تستعيده - تخبرني أنها دقات طفل بلا شك، لكنها دقات جميلة، طفل يحاول أن يجد طريقه للحن صحيح، هل تعرفين يا صغيرتي أو يا صغيري أن تلك المحاولات الممتدة على مدار أسابيع.. جميلة؟ وأن تلك الدقات المرتبكة تسرق قلبي؟ هل تعرف الصغيرة أو يعرف صديقي الصغير أن عزفه منفردًا دون تصفيق، أمر سيواجهه معظم الوقت، لا في المدرسة الابتدائية فحسب؟، وأن الشك في تمكُّنه من العزف أساسًا سيتجاوز جدران الفصل وجدران المدرسة ويصاحبه على طول الطريق وفي أمور أكبر من العزف؟ وأنه سيحتاج من وقت لآخر إلى تصفيق يطمئنه أنه قد أجاد ليواصل العزف واثقًا في نفسه وفي جدوى عزفه؟




لذلك فقط وددت لو يعلم مَن يعزف أنني أصفق..أصفق بحرارة في كل مرة أستمع فيها لذلك العزف الجميل حتى في ارتباكه، وودت فقط لو يصل التصفيق إلى ذلك القلب الصغير، كما وصل العزف إلى قلبي فجعله يتسع الكون مع كل  دقة إكسيليفون. 




الجمعة، 2 مارس 2018

الخيط الرفيع *

(1)
تنشر صديقتي على حسابها الشخصي بموقع فيس بوك تدوينة بديعة، ذات أسلوب رائع في سرد تفاصيل وقوف فتاة فى المطبخ في إحدى الصباحات، ثم بعض التفاصيل التي تعكس شيء من ارتباك الفتاة الحياتي، اسقطت تفاصيل ارتباكها على ما يحيطها في المطبخ لتدمج الخاص بالعام، فأسرت قلبي بأسلوب يلمس بتفاصيله نقطة ما في أعماق القلب، تَرَكت تعليق يشيد بالتدوينة، فأرسلت  صديقتي رسالة تخبرني فيها أنها مترددة في إتاحة التدوينة لكل الأصدقاء على حسابها، استفسرت عن السبب، فاستطردت قائلة: " خايفة.. مابحبش حد يشوفني من جوة"، تعجبت حينها من خوفها الذي أفهمه جيدًا، ذلك الخوف الذي يسكننا جميعًا - باختلاف درجته- لأن يظل شىء ما في نفوسنا غير مرئي للغير، يخصنا وحدنا ولا يقربه أحد، وللعجب فإن تلك الرغبة يوازيها تمني لو بالإمكان أن نفصح عن ذلك الجزء غير المرئي للجميع لنكسر ذلك الحاجز بين مَن نكونه، ومَن نظهر به للعالم، ربما لذلك قيل أن رغبتنا في الاختفاء ما هي إلا رغبة فى أن يعثر علينا أحد، وربما لذلك أيضًا قيل أن في باطن كل شخص تعرفه، شخص لا تعرفه.



(2)
تقودني الصدفة لدردشة حميمية مع أستاذتي التي تكبرني بحوالي عشرين عامًا، ثم تقودني صدفة أخرى لاكتشاف أنها تهوى الكتابة، لكنها توقفت عنها منذ سنوات طويلة، رجوتها بأن تُطلعني على بعض مما كتبت، فتمنعت بخجل في البداية، ثم امتثلت لرغبتي في النهاية فجلبت لي بعض من كتابات الصبا في جلسة حميمية تالية، أبهرني إحساسها الرقيق على الورق، والذي يخالف ما تبدو عليه من جدية مفرطة في الواقع، أو ربما يحتاج لمن يراها بعين مختلفة في الواقع ليصل لذلك الشخص الرقيق في داخلها.. الحساس جدًا.

أسألها كيف لكِ أن تتوقفي عن الكتابة؟ تجيبني بشيء من الشجن: "بقى صعب أطّلع مشاعري"، ثم أسألها عن رأيها في بعض ما كتبته وأطلعت هي عليه فتجيبني بأن كتاباتي راقت لها؛ لأن مشاعري فيها متزنة، أخبرتني أن مشاعري حاضرة فيما أكتب، لكنه حضور "محكوم" أو ما وصفته بـــ "ماسكة مشاعرك كويس"، لأفكر بعدها هل أراوغ مشاعري كي لا تظهر صراحةً فيما أكتب؟ .. هل أسير أنا أيضًا على نهج أستاذتي: " صعب عليا أطّلع مشاعري"؟، هل يتطابق الأمر مع ما كتبه أحد الأشخاص يومًا بأن لكل شيء في الحياة "ديد لاين" بما فيها المشاعر والأحلام، ولذا بات من الصعب على أستاذتي التعاطي مع ما تشعر به كتابةً؟ ترى هل ينتهى تحفظنا في الكشف عن ذواتنا الحقيقية بمشاعرها وأفكارها وخواطرها إلى فوات "الديدلاين" ومن ثم فوات القدرة على أن يكون ظاهرنا كما باطننا؟ أو فوات فرص حقيقية تذهب بلا رجعة لأن وقتها قد فات، مهما كانت جميلة وصادقة ككتابات أستاذتي، وقياسًا عليها كل ما هو جميل وصادق نحرص على إخفاءه؟.



(3)
أتوقف كل مرة أشاهد فيها فيلم   "The shawshank redemption" عند ذلك المشهد البديع الذي ينتحر فيه ذلك العجوز بعدما خرج من السجن الذى قضى فيه عمرًا طويلاً، حتى استحالت عليه الحياة خارج أسواره فيقرر الانتحار، لكنه قبل أن ينتحر قرر أن يكتب على سقف غرفته:  Brooks was here،  أراد فقط قبل انتحاره أن يخبر العالم أنه مّرّ من هنا.

أتصور في كل مرة أرى فيها ذلك المشهد أن الكتابة وسيلة لتعريف العالم بنا، وأن التصريح بمشاعرنا كالكتابة، وسيلة لنخبر بها العالم عما مرّ بقلوبنا، وكذلك وسيلة لنخبر بها البعض أنهم قد مروا بقلوبنا، وكما أن الكتابة يصعب فيها أحيانًا التصريح مباشرةً عما نشعر به، فكذلك المشاعر يصعب علينا كشف الغطاء عنها، لتبقى في النهاية مرة استجمعنا فيها قدرتنا على التصريح عن ذواتنا بدواخلها.. أو عن مشاعرنا، شاهدًا على أننا مررنا من ذلك العالم، وعن شخصياتنا التي نخفيها.
غريب جدًا أن كل ما نخفيه يكون له اليد العليا في كل ما نظهره، ربما لذلك تكون تصرفاتنا  غير مبررة للغير؛ لأنهم يفسرون في ضوء الظاهر، بينما التفسير الحق يتمحور حول ما نُخفيه.



(4)
راسلتني صديقتي في المساء بنبرة سعيدة أكاد أسمعها عبر حروف الكيبورد، لتخبرني بأنها قد نشرت التدوينة للعامة "Public"، وأن ردود الفعل حول ما كتبت أبهجتها للغاية، لمست بهجتها بالفعل فيما فعلته صباح اليوم التالي، حيث راسلتني على غير العادة برسالة تنُّم عن تصالح مؤقت أبرمته صديقتي مع العالم بعد أن واجهته بشىء من شجاعة التصريح عن نفسها، فأرسلت لي: " صباح الفل".
جعلتني تلك الرسالة غير المألوفة من صديقتي أفكر في أنه قد يفصلنا عن التصالح مع العالم  تخطي حواجز خوفنا الوهمية، وبعض الشجاعة في ألا نُلجِّم مشاعرنا حتى وإن بدا ذلك أسلم، أو أن  ننجح في تمييز ذلك الخيط الرفيع الذى يفصل بين ذواتنا الحقيقية التي نحتفظ بها داخلنا، وما أخترنا أن يظهر منها للغير، ربما حينها  فقط نستيقظ مستقبلين العالم بصدور مفتوحة مرددين: صباح الفل.
 ولا أظن ذلك سهلاً على أي حال.


* عنوان التدوينة مقتبس من رواية لإحسان عبدالقدوس .