الأحد، 27 ديسمبر 2015

بوسطة (1) - رانيـــــــا الخُضري

لسبب ما، فقلبى شديد الولع بفكرة كتابة الخطابات.


أشعر أن الأمر أبسط حتى من أن نطلق عليها خطابات.. كلمة جوابات أدفأ فى استخدامها، أتخيل مرارًا لو أن الجوابات كانت وسيلة التواصل فى عصرنا الحالى، ثمة شىء حميمى فى أن يخط لك أحدهم كلمات بيديه ..لا عن طريق لوحة مفاتيح، ليحمل لك الجواب شيئًا منه مع كلماته: خطه .


أسرح قليلًا فأتصور أننى أقضى الليل عاكفة على كتابة بعض الأوراق، ثم أضعها فى ذلك الظرف الأبيض ذا الإطار الملىء بمربعات زرقاء وحمراء، أُحكم لصق الجواب، أكتب العنوان على الغلاف الخارجى ، ثم ألصق طابع البريد، لا يتوقف خيالى هنا فحسب، وإنما يمتد لأن أكتب على أسفل الغلاف الخلفى من جهة اليسار " شكرًا لرجال البريد".


أتمنى لو أنى أفعلها يومًا ما..وأظن أننى سأنفذها ذات مرة، وأعرف أننى لو بدأت فلن أتوقف، سأرسل جوابات كثيرة ساذجة لكل من يشغل فى القلب مساحة، سأخبرهم أمورًا عديدة لا يتسع المجال لحكيها بوسيلة أخرى غير الجوابات، صحيح أن لا وسيلة أدفأ من اللقاء المباشر، لكن ثمة سحر خاص يسكن فكرة أن تكتب بيديك لشخص ما.


ربما ستساعدنى جواباتى تلك فى أن أعبر بشكل قد لا أجيده فى الواقع..بشكل أكثر صدقًا، وأكثر إنصافًا، ولا سوى الكتابة ينصفنى، ولا أكثر منها صدقًا أُعبّّر من خلاله.


وإلى أن أفعلها..ربما سأقدم لكِ اليوم ما يشبه الجواب، ستتسلميه عبر وسيط إلكترونى، بلا طابع..بلا عنوان علي الغلاف..بدون خط يدى، لكنه قطعًا يحمل شيئًا من قلبى، ولتكن هديتكِ في العام الجديد.


عزيزتى رانيا..
كنتِ تضحكين مؤخرًا وتمازيحننى متسائلة: " مش هتكتبى عنى؟"، ربما مضى وقت طويل على مزاحنا ذلك، إلى أن دار بيننا ذلك الحوار اليوم..كررنا مزاحنا مرة أخرى، لكننى تأثرت به هذه المرة، ربما لأننى أعرف أنك على وشك السفر لتلك البلاد البعيدة، صحيح أن سفرك لن يطول، لكننى أصحبت شديدة التأثر بفكرة السفر؛ ربما لتحوله إلى عائق بينى وبين كثير من المقربين لى، صارت فكرة السفر تثير شجونى بشكل كبير، صرت غير قادرة على استيعاب فكرة البعد المادى بينى وأحبائى بفعل تفاصيل جغرافية لعينة..وظروف حياتية لعينة، اقتضت بأن ينتهى الأمر بمطار وطائرة وقارات مختلفة، ربما لذلك تأثرت اليوم للغاية، وأظننى أخبرتك حينها أننى لا أحب لقاءات ما قبل السفر..بل طالما أهرب منها، لذلك يا صديقتى لم أطل ذلك "الحضن"، ولذلك يا صديقتى تأثرت به كثيرًا. 


ربما لتأثرى بفكرة سفرك..أكتب لكِ، ربما لأن تلك المبهجات الصغيرة هى كل ما نحارب به قسوة الدنيا أكتب لكِ، ربما لأننا فى حاجة ماسة لأن نردد على مسامع من نحبهم أننا نحبهم..أكتب لكِ.


أكتب لك يا صديقتى لأخبرك بعضًا مما لم أخبرك به مباشرة من قبل، ربما أنتِ حالة خاصة لم أصادفها مسبقًا فيما يتعلق بطريقتك فى الحزن، تحزني فترفضى الاعتراف لنفسك بالحزن، تواصلين الضحك والثرثرة، تنهى موضوعًا فتبدأى آخر وكأنك تُجّنبى نفسك الانفراد بذاتك، وكأن ثرثرتكِ وضحككِ وسيلتك فى إلهاء نفسك عن التفكير، أبادرك بالسؤال : " أنتِ كويسة؟"، تضحكين أولًا ضحكتك المميزة المصحوبة " بكرمشة طرفى العين"، ثم تجيبى : " لأ والله أنا مش كويسة خالص"، ينتهى الأمر بجلسة فضفضة كوميدية للغاية، رغم دراما جوهر الحديث.


أنظر فى صندوق الوارد على حسابى على الفيس بوك، فأجدك تغنين لى ..تغنين بكتابة كلمات لبعض الأغانى، أضحك من قلبى قبل أن أرد من جانبى بسرد بعض كلمات الأغانى، مرددة فى نفسى : " رانيا مش كويسة " ..وينتهى الأمر برسائل كوميدية متبادلة، رغم دراما ما فى قلوبنا..لكننا نضحك، بفضل طريقتك المميزة فى الحزن.


يبهجنى دومًا وجودك فى المكتب صباحًا، تؤمنى لى صُحبة وونس..وضحك على أى أمر درامى، تأسرنى بساطتك وعفويتك، تسليننى بحكاياتك عن الدنيا والناس، وما تواجهى من مواقف، لا أخفيكِ سرًا بأننى أحيانًا أنفصل عما تحكيه وأركز فى طريقتك فى الحكى لا فيما تحكي، وأرجوكِ ذكرينى بأن أقلدك يومًا لأعكس لك كيف تحكين موضوعاً وأنتِ مندمجة.


أوفى اليوم وعدى بالكتابة عنكِ، ويبقى وعدك بمداومة إطلالتك على صندوق الوارد خاصتى بكلمات أغانى دون أى مناسبة من وقت لأخر، وأرجوكِ " بلاش هانى شاكر".


واظبى يا صديقتى على الضحك ما أمكن، وليكن وسيلتك دومًا فى مقاومة الأوقات القاسية، واظبى على البقاء بسيطة عفوية كما أنتِ، واصلى الغناء وأشهريه  دائمًا سلاحًا فى وجه اكتئابك .

عامك جميل يا رانيا.. مثلكِ :)

الخميس، 24 ديسمبر 2015

بلوتو الدور الرابع 16 - كارت معايدة

عزيزى على..

                  صديقى الفضائى الذى يسكن هنا تماماً..فى أعماق القلب، ويستقر هنا تمامًا فى خبايا وجدانى، برغم المسافات والانشغال، وكل ما يعيق تواصلنا الدائم، لكنك فى القلب والوجدان، ولم ينافسك أحد بعد على مكانتك فى قلبى ووجدانى، ولأ أظن أنه ثمة أحد قادر على المنافسة، أنت هنا دومًا يا صديقى وإن كنت فعليًا دومًا هناك، لكن ثمة رابط خفى سحرى أشعر معه أن هنا وهناك قد ذابا معًا.. أيمكن للوصال يا صديقى أن يحدث بلا وصال؟

                                             أما بعد.. كيف حالك يا صديقى؟


أعلم أن مقدمة خطابى هذا ربما هى الأطول بين جملة ما صغته لك من خطابات، ربما تملؤنى اليوم حماسة مفرطة، تنعكس على كل ما أفعل.. بما فيها ما أكتب.


عام جديد يا صديقى على وشك أن يهل..
صار كل الكلام عن استقبال السنوات الجديدة مستهلكًا..يصيغ المرء بعض الأمنيات، يذكر فى شىء من الأسى بعض التفاصيل المرهقة، نفس السيناريو المكرر.


لذا دعنا اليوم لا نسترسل فى الحكى عن أمنيات نود تحقيقها، أو نواسى بعضنا بشأن أمنيات تعصانا،  أو حتى نُفّند ما تعلمناه من جملة مواقف مررنا بها فى العام الذى أوشك أن يلملم أيامه ويمضى  بعد أن أخذ من أعمارنا ما يزيد عن 350 يوم إلى الآن، وأخذ من قلوبنا ما لا يمكن التعبير عنه بأى وحدة قياس، دعنا فقط اليوم نضع كل ما يؤذى أرواحنا جانبًا، دعنا نتجاوز كل ما يرهقنا لبعض الوقت، وأظنه التحدى الحقيقى يا على، أن نخطف إحساسنا بالحياة من وسط أوجاعها، ربما تعرف يا صديقى أن هذه واحدة من أكبر مخاوفى على الإطلاق: أن أُسلب إحساسى تجاه الأشياء البسيطة التى تُبهجنى، ربما لا أجد تعبيرًا أدق من الخوف من أتحول إلى " موظفة" فى الحياة، أفعل الأشياء لأنه فقط ينبغى لها ذلك، أن تصل لمرحلة البرمجة فى التعاطى مع كل ما حولك ومَن حولك..بلا روح..بلا إحساس، صحيح أنه مع تقدمك سنًا تكبر معك فكرة الاضطرار ..الاضطرار للاستمرار فى ظروف مرهقة لا يتُاح لك فيها رفاهية الهروب، تدرك حينها أنك لا تملك رفاهية " مش لاعب" ، وتجد أن التوقف عن كل شىء والانزواء بمفردك أصبح ترفًا أمام قائمة من المسئوليات التى تنتظرك لانهائها، إلا أنه يبقى لنا فى النهاية الجهاد من أجل أن نلوذ ببعض  اللحظات  الدافئة تحت أى ظرف.


وصدقنى الأمر به جهاد حقيقى، لكن نتائجه تستحق إرهاق الكفاح، هل تود مثال لتقريب وجهة نظرى؟ إليك هذا: أخبرتني أكثر من صديقة ممن يجاهدن مع فكرة كونهن أمهات جديدة، أنهن بعد نوبات من الاكتئاب والنوم المتقطع والابتعاد عن روتين حياتهن؛ تحت وطأة مراعاة صغارهن، نجحن فى تحسين حالتهن المزاجية من خلال استعادة بعض الأوقات المحببة للقلب، حتى وإن تطلب الأمر تقليص عدد ساعات النوم المتقلصة من الأساس، من أجل أن يحظين ببعض الوقت لأنفسهن..لأنفسهن فقط، منهن من استيقظت ساعة مبكرًا للاستمتاع بحمام دافىء وكوب قهوة، منهن من تستيقظ مبكرًا لتكتب، وأخرى لمشاهدة فيلم، بدا الأمر لهن مرهقًا فى البداية، كن يفضلن النوم عن أى شىء سواه، لأنه وحده كان الأجازة المتاحة من الأمومة لبعض الوقت، ومع الوقت اكتشفن أن الحياة هكذا تُهدر منهن، كافحن من أجل تقليص ساعات النوم لينعمن بساعة واحدة فقط تشعرهن بالحياة، هل فهمت قصدى يا صديقى؟.


أنا أيضًا قد أتخذت قرارى منذ فترة قريبة، وأظنه يحرز تقدمًا لا بأس به، قررت يا على الفصل بين عملى وحياتى، وألا يصبح عملى كل حياتى، وألا تتمحور حياتى حول عملى، كنت فى وقت سابق أنتهز فرصة يوم الأجازة لإنجاز بعض مهام العمل المتأخرة، صار أسبوعى موصولاً ببعضه، فلا فارق بين يوم عمل ويوم أجازة..أعمل فيهم جميعًا، صار الإحساس بالذنب يتملكنى إن أمضيت أجازتى بلا إتمام بعض مهام العمل، صرت أكثر حدة وأكثر عصبية، مع الوقت بدأت أعيد ترتيب أوراقى إلى أن وصلت لقرار نهائى بأنه لا مساس بيوم الأجازة، ولتذهب كل الأشياء الجادة للجحيم.. على الأقل فى هذا اليوم، صرت بعدها أقل إحساسًا بالذنب، وأقل قسوة على نفسى، وأراه الآن حقى الطبيعى فى الحياة: أن أحظى ببعض الوقت لترميم نفسى لأتمكن من المواصلة.


ما أود قوله لك من كل ما قلت هو: ابتهج يا صديقى .. ربما ستكون هذه هى معايدتى لك فى العام الجديد، ابتهج رغم أى وجع، لا تستسلم لتجّهم مَن حولك الذى يُشعرك أنه ينبغى أن تكن مثلهم، وإلا فأنت فاقد للإحساس، أو إن  "فيك حاجة غلط " إذا ما تسللت بهجة ما إلى قلبك أيًا كان سببها، فى حين أن العالم غارق فى البؤس، صحيح أن الحياة قاسية وتطحننا يوميًا، وصحيح أن كل منا فى صراع من نوع ما إن أظهر ذلك أو أخفاه، لكن فقط علينا تذكير أنفسنا بأن لأرواحنا علينا حق، ابتهج يا صديقى أيًا كان السبيل لذلك، وتذكر ما يُقال بأن السعادة لا تحتاج إلى استحالات كبيرة، وأن أشياء صغيرة قادرة على أن تهزنا فى العمق، ابتهج بكتاب جديد.. بمزيكا حلوة..بالغناء وإن كان صوتك نشازًا ..بمباراة كرة.. بفيلم سينما.. بلحظة دافئة مع أشخاص تلمس قلبك.. بالتنزه سيرًا فى طقس جميل.. بتفريغ زحام عقلك من خلال مشاهدة حفلة الست على روتانا كلاسيك،  أضف للقائمة ما شئت يا صديقى وفقًا لميولك وأهوائك، ضع فيها ما شئت حسب حياتك فى بلوتو..لكن فقط لا تنس نفسك، تكفينا قسوة الحياة، فكفانا قسوة على أنفسنا.


دمت تشعر بالحياة يا صديقى وتستشعر معناها ما أمكن.. دمت طيبًا يا صديقى فى عامك الجديد وفى كل الأعوام.
                                                                          
                                                                      من كوكب الأرض ..مع تحياتى،،

الجمعة، 4 ديسمبر 2015

من وحى حمص الشام

ديسمبر شهر دافىء  رغم برودة الطقس النسبية التى يشهدها.. دافىء لسبب ما غير معلوم؛ ربما تسكننىا فيه سكينة الاستسلام لحقيقة  "إن كله بيعّدى" .. ندرك فى ديسمبر أن عامًا قد انقضى بكل ما فيه من أشياء أثقلت القلب، وانتقصت من سلامنا النفسي، سواء إن كانت انقضت على نحو تمنيناه  أو لا، لكنها انقضت، هكذا ببساطة.. انقضت ومضت، ومازلنا أحياء ولم نمت برغم  كل ما رحل عنا بلا رجعة، وكنا نحسبه وحده القادر على إمدادنا بأكسير الحياة.



ديسمبر شهر محبب رغم أن الإحساس بانتهاء شىء ما  يثير دومًا فى النفس شىء من الغصة، لكن ديسمبر يكسر القاعدة، تنتهى فيه سنة، ويولد مع انتهائها الإحساس بأنه مع كل نهاية تولد بداية جديدة، يأتى ديسمبر ليلملم ما تبقى من الأيام، ويمنحنا فى الوقت ذاته أيامًا جديدة، واحتمالات متعددة، وآمال تنتظر تحقيقها.

ربما يخلق ديسمبر فى قلبى إحساس موازى لما تغّنت به أم كلثوم عن ليلة العيد حينما قالت: " وجددتى الأمل فينا".. يجدد  ديسمبر دومًا الأمل فى قلبى.




أفكر فى كل ذلك بينما تقودنى  لسعة برد ديسمبر المحببة باتجاه المطبخ، على الموقد أجد أمى قد أعدت لى حمص الشام الدافىء، فيزداد إحساسى ببهاء ديسمبر، التفت باتجاه حمّالة الأطباق، وفى حركة لا إرادية على طريقة "حافظ مش فاهم" تمتد يداى لالتقاط المّج المزركش المعتاد، ثم شعرت أنه من غير اللائق أن أسكب حمص الشام فى ذلك المّج الأنيق؛ لا تتلائم أبدًا أناقة المج مع الجو النفسى الذى يتطلبه احتساء كوب حمص الشام، ثم أن التعبير نفسه يكشف أنه لا يجوز، فلا أذكر أننى سمعت يومًا أحد يقول " نفسى فى مج حلبسة".. إذن فلنعيد للأشياء أصالتها وأصلها، ولتذهب الحداثة للجحيم، مع الاعتذار لمّجي المزركش المحبب الذى لا يليق به إلا النسكافيه.. ذلك المشروب الارستقراطى.


تدراكت يدى ما يدور فى عقلى، فاستجابت سريعًا للإشارات القادمة لها من المخ، وانتقْلت سريًعا للصف الأول من حمالة الأطباق، حيث يستقر ذلك الكوب الزجاجى.



انتهى بى الأمر جالسة على ذلك المقعد الخشبى الصغير الموضوع فى المطبخ، ممسكة بكوب حمص الشام، ومفسحة المجال ليداى لتذوب فى دفء الحرارة المنبعثة منه، أتذكر جدالى السابق مع أمى؛ لتمسكى بذلك المقعد البائس وتوسلي لها بعدم التخلص منه، إحقاقًا للحق وإنصافًا لأمى، فهو ليس جميل شكلًا، لكننى أحبه للغاية، بلا أى سبب وجيه، ألا يقولون أن الحب في إجماله إذا عُرف له سببًا فسيزول بزوال السبب؟، أخبرت أمى حينها أن الأمر أكثر تعقيدًا من أن أشرحه، ثم شعرت بسذاجة الموقف وأنا أخبر أمى أننى أحب ذلك الكرسي وأن الأسباب يتعذّر عليّ شرحها..أذكر نظرة أمى لي حينها، وربما وافقت على ترك الكرسي فى مكانه بعدما "استعوضت ربنا" في عقل ابنتها، لكننى شعرت حينها بلذة الانتصار، ولسان حالى يردد ما قاله فتحى عبد الوهاب في فيلم كباريه: "الكلام بيجيب نتيجة".



ارتشف قليلًا من حمص الشام اللذيذ، وأفكر أنه لا يوجد ليمون بالمنزل، بالقطع حمص الشام بالليمون أحلى، لكننى ركلت تلك الفكرة سريعًا من رأسي، وعزمت النية على أننى لن أسمح لأى منغصات بأن تعكر صفو الاستمتاع بالحدث الجلل: أنا على مقعدى الصغير البائس ممسكة بكوب حمص شام في ليلة من ليالى ديسمبر المحببة.



قررت حينها أن أسجل إحساسي كتابًة، وأن أدون أنه فى تلك الليلة بينما كنت أحتسي كوب حمص الشام فى إحدى ليالى ديسمبر المحببة أتخذت عدة قرارت مهمة للغاية تشمل: أننى سأتمسك لأخر نفَس بذلك المقعد البائس طالما أنه يعنى لى شيئًا جميلًا، حتى وإن لم يتفهم الآخرون ذلك، وحتى إن لم أكن قادرة على شرح مكانته فى قلبى، فلا يهم الشرح بقدر ما يهم الإحساس بالمعنى، بل ولن أسمح بوصفه بالبائس، لأن أى شىء يخلق فى نفس المرء معنى جميل لا ينبغى له أن يكون بائسًا، سأدون أيضًا أننى لن أسمح لنقصان الليمون أن يسرق منى لذه الاستمتاع بكوب حمص الشام، صحيح أن الليمون كان سيضفى نكهة أجمل، لكن تفويت الاستماع بكوب حمص الشام نفسه اعتراضًا على عدم وجود ليمون ..حماقة وغباء منقطع النظير.


  أظن أن الكرسى الخشبى الصغير خاصتى، والليمون قد أهداننى درسًا  حياتيًا مهمًا فى تلك الليلة: نحتاج التمسك بما نحب وإن اعترض الغير أو إن لم يتفهموا ذلك .. ونحتاج ألا نفسد بهجة الاستمتاع بما نملك بالتحسر على ما ينقصنا.

الخميس، 19 نوفمبر 2015

ما وراء الطفولة

ربما جاوبتنا علوم ما وراء الطبيعة والفيزياء، وكل تلك العلوم المختلفة بفروعها المتعددة التى لم أتمكن  يومًا من التفرقة بينها على نحو دقيق، فلم أفهم أى علم يهتم بماذا بالضبط؟ تتداخل حدود العلوم وتُربكنى، فلا أعى ما يتعيّن علىّ  فعله إن استعصت نقطة ما  فى هذا الكون على فِهمى، فى أى علم سأجد الإجابة..أين أبحث لتتلاشى علامات الاستفهام ويزول الغموض وأهتدى للإجابات؟


ربما قدمت لنا هذه العلوم الأجوبة وفسروا لنا كل ما نعانيه ونعانى منه، ولأننا لم ننتبه جيدًا، ولأن تلك التفاصيل المعقدة لم استسغها يومًا، ولم يستوعبها عقلى كما ينغى..فاتتنى الإجابة وظلت علامات الاستفهام بلا تلاشى..وبقت الأسئلة بلا حسم.


عشت عمرًا وأنا يُربكنى أن أصادف موقف أشعر أننى قد عايشته من قبل بشتى تفاصيله،  ليخبرنا العلم بأن ظاهرة الديجافو ترجع إلى خلل  ما فى الذاكرة والأعصاب ..ثم بعض التفاصيل  العلمية المعقدة.. لكنه - أى العلم- يمتلك الإجابة ..هكذا ببساطة.


ربما كل ما نعانيه أيضًا له تفسيره العلمى، ربما تستأثر التفاصيل العلمية المعقدة  بالإجابات لمن يستسيغون فهم طلاسمها، وتتركنا حياري.


قياسًا على الديجافو، قد أكتشف يومًا أن ثمة تفسيرعلمى لما كنت أفعله فى ذلك الزمن البعيد وأنا طفلة، حينما كنت أتصور نفسى مُعلّمة فأطيح ضربًأ في كل الوسائد والمقاعد بالمنزل، يبدو الموضوع أعمق من كونه ترهات طفولية عايشها كل صغار السن.. يبدو أننا كنا نُمهّد لما سنلاقيه فى شبابنا، حينما تعصانا بعض الأشياء المحببة..تتوه منا فى الزحام..نبذل مجهودًا خرافيًا للحفاظ عليها والتمسك بها.. يصبح الموضوع تعجيزيًا ومرهِقًا ومستنزِفًا، نعيد الكَرة..نستعيدها أحيانًا..ثم تهرب منا مرارًا وتتوه في الزحام، ثم نعيد البحث عنها..ثم نُرهَق ونُستهلَك ونمِلّ،  أتمنى كثيرًا لو أن كل تلك الأشياء المحببة إلى قلبى..لو أن كل تلك الأوقات الجميلة..لو أن كل الأشياء المعنوية كان يمكن الإمساك بها ..لا للإبقاء عليها.. وإنما لأطيح فيها ضربًا يوازى كل ذلك الإرهاق النفسى الذى عايشته وهى تراوغنى.


يبدو أننا كنا أطفال ذوى رؤية ثاقبة..ونجيد قراءة المستقبل، وقد يثبت لنا يومًا العلم الحديث ذلك.


لكن هل بإمكان العلم أن يقدم لى إجابة بشأن معايشة أحاسيس طفولية فى عمر كبير؟ ربما طمأنتنى صديقتى بما كتْبته يومًا على الفيس بوك بأننى لا أعانى انحرافًا فى مشاعرى، حينما كتبت: " حساها معيلة أوى..بس أنا عايزة ماما"، بادرت وقتها  بالتعليق على ما كتبته: " دى مش معيلة على فكرة" ..ربما أُطمئن نفسى الآن بتذكر تعليقى فأتمتم لنفسى " دى مش معيلة على فكرة..دة إرهاق ..وتعب"، وكما قال عمر طاهر يومًا " الاعتراف بالتعب لا يدين أى شخص، بل يجعله مجاهدًا..مادام صامدًا". 


إذن ربما يمتلك العلم إجابة عن كل صباح أشعر فيه كأننى طفلة لا تريد إلا أن تنزوى فى ركن لتبكى احتجاجًا على الذهاب للعمل ومواجهة العالم، صحيح أننى لا أذكر أننى كنت أبكى وأنا طفلة عند ذهابى للمدرسة، لكن أمى قد أخبرتنى بذلك، وبدورى يمكننى أن أؤكد لها أننى أعايش الإحساس ذاته فى سنى هذا، بلا مَريلة أو مدرسة، وأحيانًا بلا دموع، ومع ذلك يتطابق الإحساسان، هل يمكن للعلم أن يفسر كيف يتطابق تمامًا إحساسان فى ظروف مختلفة؟ أو هل يمكنك يا أمى أن تخبرينى ماذا كنتى تفعلين معى وقتها؟ 

الجمعة، 6 نوفمبر 2015

أنتِ مش زى الجميع

لو كنتِ ستقرئين هذه السطور..لو كان  فقط نظرك سيسعفك للملمة هذه الحروف، لعلمتى أنكِ دائمًا وأبدًا اختيارى الذى لا أتردد فيه أبدًا، وأنكِ يا جدتى قصتى التى لن أمّل أبدًا من ترديدها.



ربما علّمتينى دون قصد منك عدة أشياء تركت أعمق الأثر فى نفسى، علّمتينى أن أعظم الأشياء فى حياتنا قد تأتى على هيئة بسيطة جدًا..مثلك تمامًا، ربما كل ما استقر فى ذهن المرء عبر سنوات عمره  بشأن الأشياء الكبيرة..العظيمة، قد ضاع هباءً أمام هذه الحقيقة..أمامك، تبيّن يا جدتى أن الشىء الذى يستحق الاحتفاء به حقًا يأتى إلى حياتنا فى هدوء..بلا ضجة أو صخب كما كنا نتصور، هل تعرفين ما قاله يومًا "واسينى الأعرج" عن السعادة، حينما قال أنها لا تحتاج إلى استحالات كبيرة، وأن بإمكان أشياء صغيرة أن تهزنا فى العمق، يبدو أن الأمر ذاته ينطبق على الأشخاص، وأن أجمل مْن يصادفوننا فى حياتنا، ويهزوننا من الداخل، هم هؤلاء الذين كان دخولهم لحياتنا هادىءً، فلم نعيرهم انتباهنا الكافى، لنكتشف مع الوقت أن بساطة تواجدهم حولنا..بساطة مشاركتهم لنا فى شتى تفاصيلنا العادية جدًا هو أجمل وأعظم ما قد حدث لنا يومًا، وأنتِ منهم يا جدتى..أنتِ أولهم، وهم قليلون..قليلون للغاية بالمناسبة،  قليلون لأن الأشياء العظيمة لا تتكرر بسهولة، وقد تضيع إن لم نلتفت لها؛ لأنها كما تدخل حياتنا فى هدوء دون جلَبة.. ترحل بهدوء وفى صمت.



تذكرتك اليوم والسماء تمطر، كنت أريد الخروج للتنزه قليلاً، لكننى تراجعت؛ خشية أن تشتد نوبة الاتفلونزا اللعينة، تذكرتك حينما كانت السماء تمطر العام الماضى، ثم ظننت أنك ستعّنفينى للخروج فى مثل هذا الطقس المضطرب، كنت أخبرك حينها على استحياء أننى سأذهب لحضور مسرحية مع بعض الأصدقاء، لتفاجئيننى بتشجيع اندهشت له كثيرًا، لدرجة أننى بعد أن وصلت إلى باب الشقة عدت لكِ مرة أخرى متسائلة: "هو أنتِ ليه بتقوليلى أخرج والدنيا برد كدة"، لتبادرينى قائلة: " عشان عايزاكى تتبسطى"، أتذكر جيدًا أننى قبّلت رأسك ويدك حينها..لهذا يا جدتى أحبك، ولهذا يكون الحب فى مجمله: تشجيع.. ودفع للآخر فى اتجاه ما يحب..ثم سعادة لمجرد سعادة الآخر، الحب يا جدتى إيثار، وأظننى تعلمت ذلك منكِ.



أكتب عنك الآن بينما يأتينى صوت منير فى الخلفية، وكأنما علم أن الحديث عنكِ وحولكِ، فبادرنى بجملة أنتِ مش زى الجميع" لأضيفها،  فابتسم وأصّدق على كلامه..نعم " أنتِ مش زى الجميع". 

الثلاثاء، 3 نوفمبر 2015

طعم الحاجات

يرن منبه هاتفى المحمول ليقطع ساعات نومى المتقطعة من الأساس ..


 صباحات متكررة أجدنى فيها مثقلة بعض الشىء،  أشعر كما لو أن عبء الليل الطويل الذى يهرب فيه المرء من بعض الأفكار ويراوغها وتراوغه يُسلمنى تسليم أهالى إلى عبء يوم مُسجى طويل يتعين على المرء مواجهته، ثم يتبادل اثناهما الضحك علىّ فى ضحكات متقطعة شريرة..بينما أقف أنا متعبة غير قادرة على الفرار أو المقاومة، فاستكين تمامًا لتلاعبهما بى.


أشرد بعض الشىء فأتذكر مقولة رضوى عاشور: " يبدو الذهاب إلى العمل، أو الخروج من البيت مهمة مستحيلة..أتحاشى الخروج ما أمكن..أتحاشى الناس، وأشعر بالوحشة لأننى بعيدة عنهم فى الوقت نفسه..لحظة استيقاظى من النوم هى الأصعب، حين أذهب إلى العمل وأنهمك فيه، يتراجع الخوف كأنه كان وهمًا، أو كأن حالتى فى الصباح لم تكن سوى هواجس وخيالات"* .

تطل على رأسى عبارة رضوى بكثرة مؤخرًا..وأحسبها منصفة إلى حد كبير فى التعبير عن حالة الصباح الرمادية التى تكرر سقوطى ضحية لها فى الآونة الأخيرة.


يحين موعد الذهاب للعمل ..أتلكأ كثيرًا، كما لو كنت سأضلل الوقت..كما لو أنى طفلة تراوغ فى الذهاب لطبيب الأطفال، أو تهرب من موعد اختبار فى المدرسة فتتمنى لو أن اليوم عطلة..لو أنه فقط لم يكن فى هذا اليوم مدرسة أو اختبار.


أتحجج بعض الشىء فأطيل الوقت المخصص لاحتساء مج النسكافيه الدافىء..يمكنى اختلاس بعض الدقائق للاستماع لبعض الموسيقى ربما، أنغام خيار مثالى لتلك الأيام الخريفية..أنغام خيارى المثالى فى كل الأيام على الأرجح.


تمتد يدى لأفتح خزانة ملابسى.. أقّلب بيدى أغراضى، ابتسم رغمًأ عنى حينما تأتى يدى على تلك الحقيبة التى أهدتنى إياها صديقة، لم نعد نلتقى كثيرًا، فلم تسنح لى الفرصة لأخبرها كم أنقذتنى هذه الحقيبة فى مناسبات عديدة، خاصةً مع حجمها الكبير..سافرت بها لقضاء أجازة الصيف..لملمت فيها أغراضى الخاصة التى كنت أخشى ضياعها وأنا انتقل لمسكن جديد.. استخدمتها يوم زفاف صديقة عمرى، تتسع ابتسامتى وأنا استدعى كل تلك المواقف التى شهدت الحقيبة عليها، وعاصرت حدوثها..الحقيبة ذات الدوائر الملونة..المبهجة.


أرتدى ملابسى بينما أردد مع أنغام بعض كلمات أغانيها..أندمج بعض الشىء فأنظر للمرآة وأغنى بأداء تمثيلى، ثم أدرك أننى سأتأخر، فأتوقف وأترك لأنغام المجال لاستكمال الأغنية وحدها.


ربما سأحتاج ملابس أثقل..بدأ الجو يبرد قليلًا، ويزعجنى حلْقى بعض الشىء مُحذرًا من احتمال إصابتى بنوبة أنفلونزا..أعيد فتح خزانتى..أبعثر ملابسى يمينًا ويسارًا بحثًا عن قطعة يمكن إضافتها لملابسى فى حال شعرت ببرودة الجو، ابتسم مرة أخرى متأثرة وأنا التقط ذلك الشال المحبب لقلبى..هدية صديقة الطفولة والشباب والعمر، ربما لم أخبرها أيضًا من قبل كم أنه يُدفئنى معنويًا قبل جسديًا..أهدتنى إياه حينما كنت أبحث عن شال لأبتاعه منذ سنتين، فالتقطت هى نيتى ثم سارعت بشراء واحدًا لى، لهذا يُدفئنى؛ لأنه يحيط جسدى باهتمامها، يبقى المعنى دومًا حاضرًا حتى وإن كانت تفصلنا الآن العديد من التفاصيل الجغرافية اللعينة.. ابتسم مرة أخرى..وأتأثر بشكل أعمق، ثم أغلق خزانتى.


أعيد تشغيل نفس الأغنية مرة أخرى، مع مشاركة سريعة لأنغام بالغناء، ثم استكمل ارتداء ملابسى أمام المرآة، التقط ساعة يدى من ذلك الدرج، فتقع عينى على عقدى الأسود ذا الحبات اللامعة..أهدتنى إياه أيضًا صديقتى المقربة فى زيارتها الأخيرة قبل السفر، أعاود الابتسام أو بالأحرى التصقت على شفاهى ابتسامة بلهاء عريضة ..وأنا اتجول بعينى بين أغراضى فاكتشف أن كثيرًا من أغراضى البسيطة المحببة لقلبى تم إهدائها لى من أصدقائى..هذا المج المزركش..تلك النوتة الرقيقة..القطع البلاستيكية الملونة المبهجة التى أميز بها صفحات الكتب التى أقرأها..بل ومجموعة الكتب تلك فى حد ذاتها كانت هدية.. المصباح الضوئى المفّرغ ليلقى بهذه الفراغات على  الحائط مًشّكلًا بظلها رسمًا أذوب فى أبعاده.


اشعر فى هذه اللحظة تمامًا أن غرفتى جميلة وأن أغراضى المتناثرة بها هنا وهناك لها طعم.. أشعر أن قلبى دافئًا..وأن أنغام صوتها صار أحلى.


أغلق غرفتى..اتجه لعملى..وأنا حقًا مبتهجة كما لو أننى محتفظة فى غرفتى بأصدقائى لا بهداياهم، أتذكر قول رسولنا الكريم : " تهادوا ..تحابوا"، فأتمتم: صدقت سيدى.


  

* الاقتباس من رواية " فرج".


الجمعة، 23 أكتوبر 2015

تجربة ال 30..إلا عامين

لا أعلم إن كان مسموح لى بالتنظير حول سن ال 28، أم أنه لا يحق لى الكلام قبل "تقفيل" ثلاثة عقود بالتمام والكمال.
كل أصدقائى ممن يكبروننى سنًا شًكل لديهم سن الثلاثين تجربة مختلفة، ربما هى  المرحلة التى تتلقى فيها لسبب ما أول  صفعة حياتية تخبرك: " مبقتش صغير"، الثلاثين هى التجربة التى تدرك حينها - على حد وصفهم- أنك مطالب بتقديم كشف حساب ما للمجتمع، عليك أن تبرر للمجتمع أين كنت خلال السنوات المنقضية من عمرك، وماذا حققت فيهم، لا أعلم تحديدًا من أقر ذلك..لكن بالفعل اشترك جميع أصدقائى فى  الإحساس ذاته..تسلل إليهم جميعًا، وربما صحب معه شىء من الإكتئاب لدى بعضهم.


لم أبلغ الثلاثين بعد..ولا أعرف  ماذا سيكون شعورى حينها -إن كتب لى الله العمر-، لا تفزعنى الأرقام  فى حد ذاتها ولا ألق بالًا لفكرة الفزع من التقدم سنًا وما حققته وما لم أحققه، لا أشعر أصلًأ بأنه ينبغى تحقيق شيئًا بعينه قبل سن معين، أتجنب قدر الإمكان الاستسلام لهذا الهلع المجتمعى المسيطر على الكثيرين بأننا فى سباق وعلينا أن نلهث جميعًا.. يجب أن نجرى " علشان نلحق"، لا أعلم كينونة ذلك الشىء الذى يجب أن نجرى لنلحق به، كل ما أعلمه أن الجرى مرهق، وأننا لسنا مضطرين للجرى مالم يكن نتاجًا لرغبة حقيقية منا، أما فكرة الجرى لمجرد إن " كله بيجرى" لم استسغها قط،  ربما تنتهى دومًا نقاشاتى مع بعض الصديقات فى هذا الأمر باتهامات صريحة لى بأنى حالمة ..غير واقعية، صياغات مهذبة منهم لما استشعرهم يودون قوله لى ويمتنعون تأدبًا: " أنتِ مغفلة"..  لم يثبت بعد مَن منا قد جَانبه الصواب " ومين اللى فاهمها صح"، فى الواقع أدرك أننا جميعًا مضحوك علينا بشكل أو بأخر، ولا يمتلك أى منا صياغة مثلى لحياته، ربما أنا وهم على قدر من الصواب والخطأ معًا فى نفس الوقت، كلٌ وفق تفكيره وأولوياته والمفاهيم التى يقرها عقله للحياة بمناحيها المختلفة ويرتضيها لنفسه.


أنا على وشك بلوغ ال 28 ..  ولسبب ما،  أحسبها تجربة حياتية مختلفة تستحق التوثيق؛ ربما لأنه سنًا لمست فيه تغييرات حقيقية فى شخصيتى ومفاهيمى التى صغتها تجاه الدنيا والناس، صحيح أن جزء كبير من تلك المفاهيم ثبت سذاجته، لكن ربما اكتشاف سذاجتك هو أول الطريق نحو الحكمة، قياسًا على قاعدة " اقترافك للخطأ هو الوسيلة المثلى لمعرفة الصواب".


أحببت النصف الثانى من العشرينات رغم صعوبته.. رغم أنه فعلًا سن ملبد بكثير من التخبط والتوهان والسير بخطى ثابتة نحو شيئًا لا تعرفه؛ لأنك أصلًا لا تعرف ما هى الجهة التى ينبغى سلكها، والمضمونة نتائجها..فى الواقع ستكتشف أن لا شىء مضمون أصلًا ، وأن كل تجاربنا اجتهادات لا أكثر وقد يصدف أحيانًا أن تكن محصلتها إيجابية فنتصور أننا " كنا حاسبينها صح".


 النصف الثانى من العشرينات هو البداية الحقيقية للدوران فى حلقات مفرغة مرهقة للغاية،  ربما يكن طريقك أسهل خلال سنوات الدراسة..تنتهى سنة دراسية فتبدأ الأخرى دون أن تنشغل كثيرًا بما ينبغى عليك فعله سوى الانتقال للسنة الدراسية الجديدة..فجأة تنتهى كل سنوات دراستك فتشعر بأنك " هنّجت" ولا تعرف ما الذى ينبغى فعله فيما بعد، هنا تمامًا تبدأ مرحلة " هو إيه اللى المفروض يحصل دلوقتى"،  وفى الواقع..لا أحد يخبرك أبدًا بالمفروض..أو ربما يقدمون  فقط اجتهادات قد لا تناسب حياتك.. وبين الحالتين تبدأ تجربتك الحياتية الحقيقية التى تشّكلك فعلاً وأنت تجتهد لتضع قدمك على الطريق الذى لا يخبرك أحد عن الوصفة المؤدية إليه بدقة..فتتوه بعض الشىء..تتوه كثيرًا على الأرجح، ثم تواصل تجربتك الحياتية تشكيل نفسها وأنت تجتهد لتستقر على مدى مناسبة تلك الاجتهادات التى يقدمها لك الآخرون لتصل لوجهتك.. هل ستثق فى وصفتهم لبلوغ الطريق؟ ماذا عن ثقتك فى اختيارك أنت إن اخترت المغامرة وتجربة طريق أخر؟ هل ستتحمل نتيجة أن تكتشف بعد مشوار طويل أنك سلكت الطريق الخطأ؟


لهذا تماماً أحببت النصف الثانى من العشرينات..رغم قسوته وصعوبته، تجد أنك صرت أكثر تقبلًا لفكرة أن التوهة جزء من بلوغ الطريق.. وأكثر تصالحًا مع أنك قد تسلك الطريق الخطأ من الأساس، لن تعد قاسيًا على نفسك كما كان الحال فى سن أصغر، ستدرك أن السعى للكمال أمر مرهق للغاية، بخلاف أنه خيالى جدًا وأفلاطونى.. تتعايش مع فكرة أنه ليس بمقدورنا السيطرة على كل شىء في كل وقت.. تصبح أكثر امتنانًا لكل تلك الصفعات الحياتية التى تضيف لرصيد خبراتك وتصقلك، فلن تجرى لتبكى نفسك فى غرفتك؛ أسفًا على قسوة العالم الملىء بالأشرار..ستعى تمامًا أن العالم قاسى فعلاً..وأنه ملىء بالأشرار، وأنه يتحتم عليك قبول ذلك والإقرار  به والتعامل على أساسه، ستعى أيضًا أن تعاملك مع شتى الأمور بجدية بالغة سيصيبك بعدة أمراض مبكرة، فتصبح أهدأ، وإن حالفك الحظ، ستفسح مجالًا أكبر للاهتمام بنفسك.. وإسعاد نفسك قبل أن تحولك تلك السخافات التى تأخذها على محمل الجد إلى كهل فى العشرينات..أو أضعف الإيمان إلى شاب بلا روح.. ممتلىء بالخواء.


فى النصف الثانى من العشرينات ستكتشف أنك للأسف فقدت صداقات كنت تحسبها أقوى، رغم حرصك على ألا يكن خيارك فى يوم ما أن تدير ظهرك وتمضى بعيدًا، صحيح أنه ربما لن تعد لديك تلك الحماسة لاكتساب صداقات ومعارف جديدة، لكنك ستدرك أن الأهم بذل الجهد أولًا للحفاظ على الدوائر المقربة التى "تستحق " مجهوداتك وربما تنازلاتك فى بعض الأحيان.. ثم لا مانع بعدها من شىء من الانفتاح للانخراط مع الآخرين، لكن لسبب ما تكتشف أن كل العلاقات الجديدة " دبلوماسية" لا أكثر.

 لسبب ما سيتراجع مع تقدمك سنًا عشمك فى الآخرين أيًا كانت درجة قربهم..وهو مفهوم رغم قسوته إلا أنه مشرق فى جانب منه؛ حيث يزداد مع تراجع عشمك فى الآخرين مدى اعتمادك على نفسك بصورة أكبر.


اقترب من الثمانية وعشرين وأنا أكثر هدوءًا فى التعامل مع الحياة، وامتنانًا لتقلباتها غير المحسوبة، ورفقًا بنفسى.. واعتقد إنه إذا كان بالإمكان تلخيص تلك المرحلة العمرية فى عبارة واحدة ستكون:  " سن التوهة الجميل" ..توهة لكل ما ذكرته سلفًا..وجميل لأنها توهة تقربك أكثر من نفسك ..ومن الطريق .


الخميس، 1 أكتوبر 2015

يا أبو الطاقية..أنا قلبى معاك *

كنت حينها أبلغ من العمر أحد عشر عامًا، أو ربما أثنى عشر عامًا..لا أتذكر على وجه الدقة، ولكننى أذكره جيدًا، من بين ضبابيات الذاكرة، وتداخل تفاصيل الأشياء  العالقة فى ذهنى من ذلك الزمن البعيد، بقى هو ساكنًا فى وجدانى بلا أى تشويه.. ذلك الخواجة الخمسينى " أبو طاقية بنى "..وتى شيرت فاتح اللون فى معظم الأحيان..ووجهًا رائقًا لم تعبث به هموم الدنيا، ولم تفلح الأيام فى نزع ابتسامة تعلوه..ابتسامة ودودة للغاية يشهرها فى وجه كل مَن يقابله.


كان صديقًا لخالى، يأتيه ليكتب له خالى على الكمبيوتر قصصه التى يؤّلفها..كان الخواجة كاتبًا..كاتبًا عظيمًا - على الأقل بالنسبة لى - يكتب قصصًا قصيرة جميلة.


كان قادرًا على أن يلمس روحى بكلماته التى أقرأها خلسة فى مكتب خالى الذى يقطن معنا فى نفس البناية آنذاك، كنت أتسلل لغرفة المكتب تلك وأفتح الأوراق التى تركها بخطه؛ ليكتبها خالى، فأذوب مع تفاصيلها وأضحك..أضحك بشدة، وانبهر من قدرته الفائقة على التخيل.


أذكر أن إحدى قصصه كانت تدور عن "صراصير" احتلت مسكنًا، فملأته عن آخره، صارت تتجول فى المنزل غير عابئة بسكانه، إلى أن صار سكانه أيضاً لا يعبأون بهم، تأقلم بنى البشر مع قبائل الصراصير، وصار فقط على كل منهما تنظيم حياته فى وجود الآخر، فكان الزوج والزوجة يجلسان معًا لاحتساء شاي العصارى، واضعين أيديهما على حافة الكوب؛ لكيلا يسقط صرصار فى أى منها، لم تكن القصة مقززة على الإطلاق، بل كانت كوميدية للغاية.. كانت لوحة فنية فى هيئة كلمات، تقرأها فتستحضر الصورة وكأنك ترى مشهد من فيلم، فضلاً عن خياله اللا محدود الذى يصحبك معه فى سفرة لما هو أبعد من الممكن..الممكن تخيله.


كنت حينها أبلغ من العمر أحد عشر عامًا، أو ربما أثنى عشر عامًا..لا أتذكر على وجه الدقة، لكننى أذكر أن قصصه كانت مزيجاً رائعاً بين السرد بحرفية أديب متمكن، وطرافة عجوز لم يعد يرى فى الدنيا إلا نكتة، أو ربما لم يعد يرى الدنيا إلا نكتة.


كنت حينها أبلغ من العمر أحد عشر عامًا، أو ربما أثنى عشر عامًا..لا أتذكر على وجه الدقة، لكننى أذكر أنى كنت أتعمد أن أفتح له الباب إذا علمت أنه سيمر على خالى فى موعد محدد، كنت أفتح الباب، لأفوز بتلك الابتسامة الودودة للغاية، التى يهدينى إياها مع ميل خفيف برأسه فى اتجاهى؛ ليرسل لى تحية بطاقيته المميزة.


لم يكن الخواجة أجنبيًا بالمناسبة، ولكن كانت هيئته توحى بذلك، احتفظت به في ذهنى على أن اسمه " الخواجة"، ولم اهتم حتى بسؤال خالى عن اسمه، لا أذكر أننى تحدثت أصلاً مع خالى بشأنه، ربما لأن أكثر الأشياء التى تلمس قلبك فعلاً..يشوهها الكلام . 


* العنوان مقتبس من أغنية لمحمد منير


الخميس، 10 سبتمبر 2015

يو هاف جوت ميموريز

كانت ميج رايان إلي جواري طوال اليوم..


عرضت ميج متجر الكتب الذي توارثته عن أسرتها للبيع، وما إن أفرغت المتجر من محتوياته إلا ورأت نفسها طفلة تراقص أمها في المتجر كما الأيام الخوالي..كانت تسترجع لحظات جميلة قضتها فيه، اضطرتها الظروف لبيعه..فباعته، ولكن أبت الذكريات أن تتركها إلا بعد أن تتحرش برأسها بعض الشئ؛ لتكتمل الدراما.
هل يمكن أن يتم بيع الأماكن التي احتوتنا طويلًا دون أن تكن المواجهة مع ذكريات العمر المنقضي فيها هي ضريبة المبيعات التي يسددها أصحابها؟



مشهد هامشي في فيلم you've got mail..وربما ليس واحدًا من المشاهد التي يتذكرها المرء من جملة مشاهد أكثر جمالًا وتأثيرًا امتلأ بها الفيلم، ولكنه- أي المشهد- علي قدر بساطته نجح في أن يلتصق بمخيلتي طوال اليوم آنذاك، ربما لأنه محملًا بمعانى احتوت مشاعري المركبة في تلك اللحظة، وربما لأنني وجدت فيه تعزية عن اضطرابي بين جمال الذكريات ،وما تثيره في النفس من شجون، وما يحتمه العقل من ضرورة تخطي كل ذلك لنتمكن من المواصلة، ولنكن علي قدر من المرونة مع معطيات حياتنا المتغيرة.


كانت ميج رايان إلي جواري طوال اليوم، وأنا أطوي حياتي في عدة حقائب؛ استعدادًا للانتقال لمسكن آخر،  غصة ما تسللت إلي قلبي رغم أنني كنت اتطلع لتلك اللحظة التي أترك فيها تلك البناية، تلوثت الذكريات الجميلة بأوقات قاسية فما عاد يمكن الفصل بينهما،  فإن تذكرت جمال لحظة ما اقترن بها تذكري لقسوة لحظة اخري رغمًا عني، تبدلت ملامح البناية فما عادت تحتويني، وما عادت تشبهني..ماعاد أحبائي فيها..باتت موحشة..لم أعد أعرفها..ولا أظن جدرانها تعبأ بتجديد التعرف علي.

صرت غريبة عنها، لكنني أيضًا غريبة في مسكني الجديد، لم أعد أنتمي إلي هناك، لكني أيضًا لا أنتمي إلي هنا، صرت خليط من كليهما إن جاز التعبير، خليط من هنا وهناك دون  انتماء صريح لأي منهما، أظنني فهمت الآن درويش حينما كتب عن حالة " البين بين" .



كنت ألملم أغراضي بسرعة وكأنني أراوغ الذاكرة قبل أن تستدعي شيئًا ما ارتبط يومًا بما أضبه في الحقائب، مناورات عديدة دارت مع ذاكرتي ومع ذلك الجزء الضعيف اللعين في قلبي، ومناوشات شديدة قامت بها ذاكرتي للنبش في رفات ما قد مضي، لا أعلم من انتصر في النهاية، ولا أظن أن مثل هذه المعارك ينتصر فيها طرف ما بشكل كلي، أرهقنا بعضنا البعض أنا وذاكرتي، كل منا كان يجري محاولات ليبقي علي الآخر وكلانا كان يعلم أنه لا مجال للبقاء، شئت أم أبيت تحين اللحظة التي ينبغي عندها أن تطوي الصفحة وتمضي دون أن تجعل التفاتك للخلف يبتزك عاطفيًا ويعيقك فتظل حيثما أنت..في نفس المكان..متجمدًا عند نفس المرحلة  من حياتك وعاجز عن تخطيها.



ربما يحتاج المرء لكثير من هذه اللحظات في حياته لتذكره علي الدوام بأن دوام أي وضع مهما امتد زمنه أمر مؤقت في النهاية، يحتاج المرء للحظات النهاية.. والفقد..والسفر.. والوداع؛ ليدرك المعني الحقيقي للحياة،  ليدرك ما روُى عن قول المصطفى صلى الله عليه وسلم:"أحبب مَن شئت فإنك مفارقه"، نحتاج جميعًا لتلك الصفعات الحياتية؛ لنعي أن ثمة لحظة فراق آتية لا محالة فنجتهد لاستغلال أوقات الوصل والوصال جيدًا.. لندرك أن ثمة وقت رحيل فنبذل كل ما بوسعنا لنشبع من الوجود ونمتلئ به، والأهم لندرك أن هذه الأوقات بما فيها من شجن وما يعقبها من ألم جزء طبيعي من الحياة فنساعد أنفسنا لمجابهة عواطفنا  لتجاوز هذه الأوقات سريعًا بأقل خسائر نفسية ممكنة،  ولنمضي قبل أن تآسرنا عواطفنا وضعفنا الإنساني فنعجز عن المضي قدمًا.


كانت ميج رايان إلي جواري طوال اليوم..تراقب وهي شابة ما استدعته ذاكرتها قبل بيع المتجر، رأت نفسها وهي طفلة تراقص أمها في المتجر كما الأيام الخوالي، كان وجودها يرهقني إذ تحاول عبثًا تأجيج مشاعر أجاهد نفسي لاخمادها، رأت نفسها طفلة تراقص أمها، لكنها كانت ترقص علي ذكرياتي أنا في الواقع..فركلتها سريعًا من ذهني، وأحكمت إغلاق أخر حقيبة وناولتها بخفة لعم دسوقي لينقلها مع بقية الأغراض؛ من أجل بداية جديدة وصنع ذكريات أخري أمني نفسي بأن تكن محببة للقلب أكثر وتشبهه أكثر، ومن أجل الهروب سريعًا من ميج رايان التي كانت إلي جواري طوال اليوم وأنا ألملم حياتي في عدة حقائب. 

الجمعة، 4 سبتمبر 2015

11يوم


يقال دومًا أن المرء يتعرف علي إنسان آخر بداخله في أثناء السفر، ولذلك سمي سفرًا لأنه يسفر عن إنسان جديد.


طردت تلك الفكرة سريعًا من رأسي حينما كنت أفكر في الاحدي عشر يومًا الذين قضيتهم في تلك المدينة الساحلية، مرددة علي نفسي " هو انت كنتي في قارة تانية..دول 3 ساعات ونص بالعربية" !
ولكن حتي وإن لم يكن سفرًا بمعناه المعهود حيث المسافات الطويلة والغياب الكبير وحقائب السفر الضخمة التي تطوي فيها حياتك استعدادًا لسنوات الغربة،  إلا أنها كانت سفرة بعيدًا عن المألوف، مست في داخلي شئ، وأصابت بعض مفاهيمي بضربة مباشرة خلخلتها ،  احدي عشر يومًا قضيتهم مع أصدقائي..دون أهلي..دون جهة تنطم الرحلة.. بسيارة صديقة.


 متي كبرنا وصرنا قادرين علي اتخاذ قرارات مماثلة؟ متي اقتنع ذوينا بأننا " كبار كفاية" لنسافر بمفردنا؟!
أذكر أنني كنت علي وشك العدول عن قرار السفر قبل بضع ساعات من موعد الانطلاق تأثرًا بمرض والدي مؤخرًا..شئ من تأنيب الضمير كان يوخز جزءً ما في قلبي، بينما  كان أفراد أسرتي يدفعونني دفعًا للسفر مرددين " محتاجة تغيري جو"..هل بات الأمر ملحوظ لهذه الدرجة؟.


ربما يجب علي المرء ألا ينساق وراء عاطفته دومًا وإلا ظل في نفس المكان،  ربما تتطلب منك الحياة أن تتحلي بشئ من الغلظة وتجاهل المشاعر التي تبتزك عاطفيًا؛ لتتمكن من السفر لا من مدينة لأخري وإنما  من مرحلة حياتية لغيرها.  



 في الطريق أخبر صديقاتي بشعوري  أننا في فيلم سهر الليالي، حينما هرب الأبطال من حياتهم في القاهرة وأغلقوا هواتفهم وسافروا..كنا تمامًا مثلهم باستثناء غلق الهواتف، كنا جميعًا في حالة هروب..وأظنها فشلت إلا قليًلا أو ربما حالفها بعض النجاح، هربنا جزئيًا من ضغوط قهرتنا بالقاهرة..وآسرتنا في سفرنا بالحديث عنها، فابتعدنا عنها ماديًا بأجسادنا، وفكريًا اصطحبناها معنا لكل مكان..فقط كنا نطردها لخلفية عقلنا تارة..وتارة أخري نفسح لها المجال لتكون كل عقلنا تحت وطأة الهدوء ونسيم البحر الذي يجبرك علي مواجهة ذاتك.ً
يقولون أن قمة الخداع للنفس أن ترتب الفوضي حولك، بينما تتركها في قلبك..وأحسب ذلك صحيح..صحيح تمامًا.


كان اليوم يبدأ بتوك شو بينما نتناول وجبة الإفطار، توك شو حقيقي في كافة الموضوعات التي تطرأ علي أذهاننا، نتبادل الرؤي ووجهات النظر، يأخذنا الحديث لتجارب شخصية، تطفو اختلافات شخصياتنا علي السطح في اختلافنا في بعض رؤانا وأحكامنا التي نطلقها علي الأشياء، بينما ننسجم حد الذوبان في مواضع أخري في الحديث وتتفق وجهات النظر وتتلاقي.


أثبتت لي تلك الأيام أن العيش مع أشخاص تتطابق معك في كل شئ أمر ممل للغاية، لكن المهم أن يكون الاختلاف مغلفًا بشئ من التفهم والاحترام،   ومساحة من النضج تحتوي ذلك الاختلاف ليمكن التعايش معه والاستمتاع به..الاختلاف ممتع ولكن بشرط وجود أرضية مشتركة تضم الثوابت التي لا يمكن الاستغناء عنها في حياتك.


كانت ساعات الفطور تمتد طويلًا، يتخللها الحديث عن بعض الروايات أو الأغاني أو المسلسلات.. ثم الغناء معًا ثم الصمت والشرود،  لم تعد فكرة المصيف ذاتها بعد سنوات من العمر والحياة، حتي أننا جميعًا لم نجلب معنا ملابس البحر، ومن جلبتها لم تخرجها من حقيبة السفر، كانت النية مبيتة للسكون..ربما تبدل في أذهاننا مفهوم الترفيه عن النفس، ربما نستعيده بعد سنوات طوال - إذا كتب الله لنا العمر- تمامًا كتلك العجوز التي كانت تتراقص في ذلك الكافيه مساءً، وضعت عمرها ووقارها جانبًا وانطلقت كطفلة تؤدي حركات بهلوانية علي مرأي ومسمع من الجميع، ..تسللت رغمًا عنا جميعًا ابتسامة لشفاهنا، كنا بلا وعي نشجعها ضمنًا علي الاستمتاع بالحياة، وعلي ما نعجز نحن عن تحقيقه لقيود كثيرة، ..كانت البهجة علي وجهها بعد أن غالبت خجلها ترغمك علي أن تشجعها..كانت حينها هي الشابة ونحن العجائز.

جعلتني تلك العجوز الشابة أفكر كثيرًا في ثقافة الترفيه عن النفس التي نتناساها طويلًا ونحسبها من رفاهيات الحياة، فنتحول كهولًا أو موظفين في الحياة تحيا بلا روح، تدور في ساقية المفروض، نلهث وراء ما يكفل لنا سد جوع أفواهنا متناسين تغذية أرواحنا.
أما نحن حينها فكنا كذلك الكوميك الذي يظهر فيه شابًا يجلس ممدًدا علي أريكته وهو يشاهد التلفاز وفي يده بعض الطعام، بينما تصاحب الكوميك كلمات" تعرف إنك كبرت لما تبقي بتقضي يوم الأجازة كدة".


تطل إلي رأسي زوجة خالي التي تعدت الخمسين وهي تخبرني ذات يوم بحماسة مفرطة عن مباراة كرة اليد التي أصرت علي الذهاب لها بصحبة خالي بعد أن أهدتها صديقة دعوة للمباراة، سألتها حينها" هو أنتِ بتحبي كرة اليد يا طنط؟" فأجابتني بنبرة فاطعة :" لأ.. و لا أفهم فيها حاجة، بس كنت محتاجة نعمل حاجة تحسسني إننا لسة عايشين، صوتي راح من التشجيع" .

كانت لمعة عينيها وقتها كافية، وأدركت  حينها أنني يجب أن أقاتل من أجل ذلك الإحساس ومن أجل لمعة العين تلك، أخبرت صديقاتي عن تلك القصة بينما كنا نتناول فطورنا، وأدركت حينها لما تراقصت العجوز أمام الجميع رغم إنحناءة ظهرها.



أحببت في رحلتي تلك فكرة الاستقلال المؤقت، وأذكر أنني قرأت ذات مرة عن معني مشابه، كان كاتب المقال حينها يشدد علي أهمية أن تبتعد ولو مؤقتًا في مرحلة ما من حياتك عن المكان الذي تربيت فيه وتخوض تجربة العيش بمفردك، وتستمتع بفرصة استكشاف نفسك، تحدثت مع صديقتي خلال سفرنا في تلك الفكرة، فأخبرتني عن صعوبة الفكرة رغم جمالها، استخدمت حينها تعبير " بتشيلي مسؤلية نفسك من أول البيت مفيهوش ملح وفلفل..وصولًا للأمور الجوهرية"..كانت تردد ذلك بينما نبحث في السوبر ماركت عن توابل للأرز.

تجولنا بين أرفف السوبر ماركت ونحن نتناقش في معني أنه قد لا تدرك في نفسك قدر المسؤلية إلا حينما توكل بها..وكما يقال أنت أقوي كثيرًا مما تعتقد.


من بين أرفف السوبر ماركت، ومما أنتهت إليه نقاشاتنا وقت الإفطار..من إجمالي جلسات المساء الممتدة للصباح أمام البحر..كانت خلاصة الاحدي عشر يومًا: انتهز كل فرصة تعيد فيها اكتشاف ذاتك..وتستعيد بها شغفك للحياة.. انخرط في النقاشات..استمتع بالاختلافات وانتقي منها ما يمكن إضافته لشخصيتك..وإياك إياك أن تقبل بأن تحولك الحياة لموظف أو أن ترتضي لها بأن تسلب منك لمعة عينيك..قاوم.




الأربعاء، 5 أغسطس 2015

عشرة دقائق

كانت اللعبة تقتضى أن يختار ثلاثة أشياء تختفى من عالمه للأبد، على أن يكون الاختيار خلال عشرة دقائق فقط، وإلا يزول مفعول التعويذة..وتزول معها وللأبد فرصة أن ينعم بحياة خالية من بعض المنغصات..ثلاثة منغصات.

ارتبك كثيراً مع ضيق الوقت..كيف يمكن للإنسان أن يفاضل بين كل ما يعاني منه خلال دقائق قليلة فقط..فكر لوهلة أنه يمقت تردده وارتباكه..ربما ليس هنالك ما هو أكثر مقتًا وبغضاً من أن تقف فى منتصف المسافة دائمًا غير قادر على الحسم..لا تدرى هل تواصل المضى قُدمًا أم أن تشد الرحال بعيدًا على طريقة " لف وارجع تانى"..ليس هنالك ما هو أكثر إرهاقًا للنفس من أن تظل فكرة ما عالقة فى ذهنك، لا يمكن طردها ولا يمكن تنفيذها..تأُدُبًا تقول عالقة فى ذهنى..فى حين أنك أنت العالق والتائه فيها. 

 التفكير المبالغ فيه مع عدم القدرة على اتخاذ قرار مؤذِ للغاية ..فعل كريه مؤذِ، وحماقة يرتكبها المرء فى حق نفسه.


كم دقيقة مرت مع فوضى الأفكار تلك؟ يا الله .. سبعة دقائق متبقية  وفرصة عمر ..وفوضى ..فوضى أفكار..كثير من الفوضى..وكثير من الأفكار.

خمس دقائق..أربع دقائق و59 ثانية .. أربع دقائق و58 ثانية ..
مرور الوقت مخيف..مخيف أن تدرك أنك استهلكت أوقاتًا طويلة وأهدرتها فى اللا شىء..ولا ترى بريقها إلا فى وقت التلاشى..تلاشى الوقت.. لهذا يقولون الوقت كالسيف.. لماذا كنا نكابر فى الاستماع لتلك المقولات ونراها سخيفة مبتذلة ؟.. لو عاد بى الوقت وعدت طفلاَ فى قاعة الدراسة لأبديت اهتمامًا أكبر بكل تلك المقولات المطبوعة على ظهر الكتب والكراسات..لكن..لكن الوقت لا يعود..لا يمضى للخلف .. لن أستعيد سنوات الدراسة ولا الخمس دقائق المنصرمة التى لم أقرر فيها شىء..تداعى ذلك إلى ذهنه وهو يفكر حينها.

إهدار الوقت فيما لا يضيف لحياتك معنى حقيقى هو نوع من القتل الرحيم الذى لا يدرك المرء أنه يقترفه بيده.


إذن سأختار التردد.. و إهدار الوقت .. والتفكير الكثير بلا تنفيذ .. ربما يبدو هذا مثالياً للغاية ،  كرر ذلك على نفسه ظانًا أنه قد حسم أمره، لكنه سرعان ما تراجع قليلًا مرددًا أن  الحياة موجعة بشكل يفوق هذه الاختيارات الثلاثة فقط..وانه لن يسعد تماماً مع كل هذا الكم الموجع من المواقف الحياتية المزعجة وهذه الاستثناءات الثلاثة فقط ،إذن ..أهو الجشع ..طمع المرء الذى ينتزع منه الرضا والسعادة وتقدير ما هو متاح له؟

التطلع لما لا تملك قاتل إن لم تهذب نفسك بالرضا.


دقيقتان..دقيقتان فقط وإلا لا شىء تمامًا ..ربما عليك بشىء من المغامرة .. ألم تعش عمرك كاملاً تردد على نفسك أنه من النضج أن تخوض التجربة بغض النظر عن نتيجتها.. لا نتيجة محسومة أساسًا فى الحياة بأكملها..والتجارب جميعها دروس..منها فقط دروساً قاسية ..وأخرى تأتى بنتائج مرضية..لكنها كلها دروس.. ألا يقولون أن حتى النعمة ابتلاء  يختبرك به الله..إذن فكل التجارب دروس،  لكننا أحيانًا فقط نتحول لتلاميذ بليدة لا تستوعب..ولا تنتبه.


دقيقة .. على بُعد دقيقة واحدة فقط من تلاشى الفرصة،عرف وقتها تماماً ما ينقصه..حينما بدأت الفرصة تتلاشى من أمامه بدا كل شىء واضح.. ردد بصوت عالِ وهو يلهث فى سباق مع الثوانى:

1- الخوف: لا أريد الخوف فى حياتى.. لا أريد أن أعش بكل هذا الجبن وراء ذلك الجدار السخيف الذى يفصلنى دائمًا عن كل ما أحب .
2- المسافات:  يجب أن يتم محوها.. ومن حق المرء أن يكون  قريبًا من كل مَن وما يحب .. المسافات مرهقة.. والبُعد دومُا يجعل شيئًا منك يتآكل.. سواء بُعدك عمن تآلفهم روحك، أو بُعدك عن كل ما يجعل الشغف يسرى فى عروقك من أشياء.. انعدام شغفك يتركك باهتًا.
3- المرض: أتقبل فكرة الفقد ..الموت حقيقة، فأريده هادئًا، ووحده المرض دومًا يرعبنى بصورة أكبر ..لا عجز حقيقى يضاهى رؤية من تحب يتألمون وأنت لا تملك شىء تدفع به هذا الألم عنهم.. ولا عجز أكبر من شعورك أنت بأنك عاجز حيال نفسك..الألم بغيض وقاتل للشعور قبل الجسد.

ربما كان يعلم الإجابة منذ الدقيقة العاشرة فى العد التنازلى.. يعلمها تمامًا بداخله، لكن وحده خوفه يصنع دائمًا مسافة بينه وبين اختياراته، وهو فعلاَ مرض.

الأربعاء، 22 يوليو 2015

ذا الشعر الفضى

كنت أمر عليه يوميًا في طفولتي..بيته قابع في ذلك الشارع المؤدي للمكتبة التي اعتدت تمضية أجازة الصيف مشارِكة في انشطتها..عجوز في الستينات أو السبعينات ربما، شعره أبيض أقرب إلى الفضي، زحف شعره ليتراجع عن مقدمة الرأس بفعل الصلع والزمان، يرتدي عادةً تلك البيجامة ذات الخطوط الطولية، وبنظارته السمكية وانحناءة ظهره يجلس علي كرسي البلكونة ليقرأ من المصحف وِرده اليومي ليطّهر روحي أنا بمجرد النظر إليه، وكأن خيط سحرى يسرى فى الهواء ممتدًا من بلكونته واصلاً لتلك النقطة البعيدة فى روحى ليصيبها مباشرًة بتأثير ومفعول التلاوة المُسكّن، مشهد يومى مهيب رغم بساطة تفاصيله..مشهد  كان جديرًا بأن يلمس أبعد نقطة في قلبي ويغمر روحي بسلام وجداني عميق لسبب لا أعلمه ليومنا هذا.


أطلقت عليه أنا وصديقاتي اسم " جدو "..

كنا نسير سويا نثرثر ونملأ الشوارع بصخب طفولي.. ولا إراديًا، وبمجرد أن نمر تحت بلكونته  ننظر إليه في شئ من الجلال،  يتراجع صخبنا وتحل السكينة محله في لحظات قليلة من الصمت، ثم نواصل بعدها ثرثرتنا..ونستعيد صخبنا ويستعيدنا..
مشهد يومي متكرر: نلتقي..نثرثر..نمر تحت بلكونته..ينقطع حديثنا..ننظر لبلكونته وكأننا نطمئن عليه، ثم نمضي فى طريقنا.


لا أذكر أنه التفت إلينا يومًا، كأنه يذوب تماما في المصحف وينفصل عن العالم فلا يري ولا يسمع ولا يشعر بشيء آخر خارج حدود  عالمه .. ذلك العالم الفسيح رغم أنه حسابيًا محصور فقط في كرسي ومنضدة صغيرة و بلكونة " كام متر" ، ولكني كنت أحسه كذلك، عالم فسيح وجميل ومبهج، وبه شئ من الغصة أيضًا..غصة أن نراه يوميًا وحيدًا في بلكونته..يقرأ في المصحف..أو يتناول إفطاره بمفرده إذا تأخرنا بعض الشئ ولم نلحق بتلاوته للقرآن.


لا أعلم كم سنة مرت علي ذلك على وجه الدقة..خمسة عشر أو عشرين..أو أكثر أو أقل..لا أعلم ولا أهوى الحسابات التى تؤكد لى مرور زمن ليس بقليل على أوقات كانت جميلة..فى الواقع أخشى الدخول فى دائرة الحسابات تلك، فقط أتجاهل الأرقام وأحتفظ بالذكرى الجميلة تجنبًا للفزع من فكرة سرعة مرور الأيام، لا أعلم كم سنة انقضت على ذلك..كل ما أعلمه جيدًا أنني حينما مررت مؤخرًا من ذلك الشارع، سبقني بصري رغمًا عنى إلى البلكونة .. لم أجده، خلا الشارع من صخب الطفولة..ومن صديقاتي..انطبق صدري بعض الشئ وكأنني كنت منتظرة أن أعيش المشهد القديم فلاش باك ولكن آلة الزمن أصابها عطل مفاجى فأنطبق صدرى.


   بدت البلكونة أضيق من المعتاد وكذلك الشارع، ربما لأننا كنا صغار فكانت تتسع المساحات وتتضخم أمام ضآلة أجسادنا..وربما لأنها كانت أيام تضفي براحًا علي كل شئ مهما كانت وحشته فكنت أرى البلكونة واسعة بحجم الكون..كونى الصغير آنذاك على الأرجح..انقضت تلك الأيام فذهب البراح وبقت الوحشة..ربما

الأحد، 28 يونيو 2015

بلوتو الدور الرابع 15- حياتيات

عزيزى على، صديقى الفضائى القريب جدًا رغم كل تلك السنين الضوئية التى تفصلنا

                                    كيف حالك يا صديقى ؟


أردت اليوم يا صديقى أن أشركك معى فى بعض التجارب الحياتية، علّها تفيدك وتكن لك مرشدًا تهتدى به إذا ما أعجزك بعض ما تصادف فى الحياة من مواقف.

 صحيح أننى لا أعرف كيف تسير الحياة على كوكبك، ولا كيف هم مَن تتقاسم معهم الحياة أو ما هى طبائعهم، ولا  أخفيك  سرًا يا صديقى أننا أهل الأرض لسنا متأكدين من وجود كائنات من الأساس على  سطح بلوتو، لكننى أشعر أنه يتحتم علىّ أن أنقل لك بعض مما استخلصته مؤخرَا من الحياة.

وسأترك لك ترجمة وتفسير ما أقوله حسبما تشاء ووفقًا لطريقة إدارتك لعالمك وحياتك الخاصة،  فالنصيحة لم تكن يومًا إلزامية  يا صديقى ولا ينبغى لها، لكننى فقط  أريد ألا تصادفك حيرة حيال أمر ما تواجهه وتشعر أنك وحيد فى مجابهتها، ربما إذا تذكرت حينها أن ثمة مَن كان يسعى لتوجيهك وتجنيبك الحيرة بإسداءك النصيحة، قّلت حدة المشاعر المحيطة بصعوبة ما تواجه، وأعتقد يا صديقى أن هذا هو الدور الحقيقى لأى نصيحة: أن تشعرك أن هناك  مَن يعاصر معك آلامك وحيرتك ، ويفكر معك  بصوت عال، مهديًا إياك فى النهاية عصارة خبرته وتفكيره فى ضوء معطيات ما تعيشه، ليضعك على الطريق الذى أرتأى له أنه الصحيح..بغض النظر عن مدى صحته فعلاً، وبغض النظر عن إلتزامك بالتطبيق، لكن تبقي فى النهاية يا صديقى محاولة النصح الصادقة  نوعًا من المساندة المعنوية الكفيلة بأن تقلل دومًا من حدة ما تواجه.


  •  عليك يا صديقى أن تكن مباشرًا فى التعبير عن ذاتك وعما تريده، ولا تفترض فيمن تتعامل معهم أنه ينبغى عليهم فك شفرات ذاتك، أصبحت حياتنا سريعة الإيقاع يا صديقى، ولم يعد هناك مجالًا للأحاجى والألغاز، ولم تعد لدينا طاقة للتنبوء والاستنتاج، أذكر أننى سمعت يوماً جملة فى حديث عابر، رددت فيه تلك المرأة بحسم شديد : " لا تفترض فيمن تتعامل معهم الذكاء الذى يكفل لهم استخلاص ما يدور فى رأسك..بل عليك أن تكن بالذكاء الذى يكفل لك الوضوح والبساطة فى طلب ما تريده مباشرةً" ..وأَحسبُها على قدر من الصواب يا صديقى فيما قالته..الحياة بها ما يكفى من التعقيد، ولا ينبغى علينا أن نزيدها تعقيدًا، أعرف أنه يعّز على المرء طلب الكثير من الأشياء..وأن تركيبتنا الإنسانية تحتاج أحياناً أن يشعر بك الآخرون دون أن تتحدث، ولكن اتضح يا صديقى أنه ليست هكذا تدار الأمور.


  •  أحِرص على ترك مسافات آمنة بينك وبين كل ما تشتهى وتتمنى حقًا..ضع دائمًا فى ذهنك أن هناك احتمالية للوصول وفى ضوئها ابذل كل مجهود يكفل لك الوصول فعلاً، ولكن وبقدر موازى ضع أيضاً فى حسبانك أن ثمة احتمالية لعدم بلوغ ما تتمنى، تصالحك مع هذه الحقيقة يا صديقى قد يجّنبك سقوط نفسى مروع، فقد اتضح يا صديقى أنه "إذا أردت شيئًا بشدة ..تبقى غلطان"، وبالمناسبة يا على، ينبغى أن تدرك أن عدم بلوغ هدفك لا يشترط أن يرتبط  دائمًا بأسباب منطقية، فلا ترهق نفسك كثيرًا بالتحليل والتفسير لمعرفة لماذا حادت الأمور عن مسارها الطبيعى، صحيح أنه جميل بل وحكيم للغاية أن تحاول تفنيد أسباب كل ما لا يكتمل لاستخلاص دروس مستفادة ، تطبقها مستقبلاً، لكن احذر يا صديقى من مبالغتك وانخراطك فى التحليل..ثمة بعض الأشياء لا يُقّدر لها الحدوث..هكذا ببساطة..فانتشل نفسك سريعًا من متاهة الاندهاش وعدم التصديق.


  •  ربما تقابل يا صديقى فى حياتك بعض الأشخاص "المبتزين عاطفيًا" .. هؤلاء الأشخاص الذين يحاولون دائمًا اللعب على وتر خلق إحساس بالذنب لديك..للسؤال عنهم..أو لتلبية بعض احتياجاتهم، يشعرونك دائمًا وأبداً بالتقصير فى حقهم، فلا تستجب لهذا الشعور، العلاقات الإنسانية السوية يا صديقى لا ينبغى لها أن تشعرك بالإرهاق، ولا ينبغى لك من الأساس  فى أى علاقة إنسانية أياً كان شكلها أن تكن أنت دائمًا الطرف المسئول عن ترتيب وتنظيم حياة الأطراف المقابلة، هذا استنزاف لطاقتك يا صديقى، فأرجوك لا تشعر بالذنب حيال أى شخص يعتبر وجودك الدائم ومساعدتك الدائمة من المسلمات، دون أن يوازن الأمر من جهته بتفهم لطبيعتك الإنسانية التى قد لا تجعلك قادر على القيام بالدور المطلوب منك دائمًا، واعلم يا صديقى أنه من حقك أن تدفع بعيداً كل شخص يسلبك سلامك واتزانك النفسى..ربما ستكتسب ذلك المفهوم مع تقدمك سنًا، فتكتشف أنه من حقك تشكيل محيطك الاجتماعى وفقاً لمتطلبات سلامتك النفسية، وأنك لست مضطراً للانخراط فى لعبة الاجتماعيات السخيفة مع هؤلاء المرهِقين.


  •  أعتمد على نفسك يا صديقى قدر الإمكان، مهما كنت محاطًا بأشخاص دافئة يمكنها تقديم الدعم، فربما تحول الظروف أحيانًا دون قدرتك وقدرتهم على التواجد الدائم معاً لتجد منهم الدعم والمدد، كما أن الحياة يا صديقى مع تقدمك سنًا واختلاف الطرق ستفرض عليك فى مواقع عدة أن تقوم بدور البطل الأوحد الذى ينبغى عليه حسم كثير من الأمور بمفرده، فعليك أن " تمرّن نفسك" على إنجاز تفاصيل حياتك بنفسك،  لتصبح ذلك البطل بالفعل، ولكن إذا شعرت أنك غير قادر على التصرف فأرجوك يا صديقى " الأ تكابر" وأطلب المساعدة ممن تثق فيهم ببساطة.


  •  أما أخر ما أود أن أنقله لك، أحذر يا صديقى أن تحولك ضغوط الحياة لموظف، حافظ دائماً على بوابة جانبية تطل منها على ما يسعدك ويشعرك بأنك حى بالفعل ، بل وجاهد دائمًا لتحول ما يُمتعك حقاً من رفاهية لأولوية، جِد دائمًا وقتًا لنفسك ..يخصك وحدك..صحيح أن هذه الأوقات قد تتراجع كثيرًا مقابل بعض الالتزامات،أو قد تختفى أحياناً، لكن المهم فى النهاية أن تؤمن بالمفهوم: ألا تنسى نفسك..وألا تستلم لدائرة  ضغوط الحياة المفزعة.

ربما قد يفيدك يا صديقى ما يحويه خطابى فى رحلتك الحياتية، وربما قد تقرأه وأنت تسخر  منى فى داخلك، تمامًا كطريقتنا فى التعامل مع شتى نصائح الكبار، ولكن هل تعلم يا صديقى أنه قد ثبت أن معظم ما تستهن به فى حياتك من نصائح ، تمر بك السنون .." وتلف تلف" ثم تتأكد من صحته بعد أن تكن التجربة قد أنهكتك ؟!


   دمت بعيدًا عن إنهاكات تجارب الحياة يا صديقى..وحكيمًا فى التعامل مع يُسدى لك من نصائح..ومبصرًا لتطبيق ما يتناسب منها مع ذاتك وعالمك.

                                            من كوكب الأرض

                                                            مع تحياتى،،


السبت، 23 مايو 2015

بلوتو الدور الرابع 14- انتصارات صغيرة

عزيزى على..صديقى الفضائى الحاضر دائمًا رغم الغياب ووحشة المسافات


أعلم أن خطابى هذا قد تأخر بعض الشىء..وأعلم أن كل أعذارى صارت بالية وربما لا تقنعك..لكننى لا أختلقها..هى حقيقية وتعلم يا صديقى جيدًا أن الكذب ليس من شيمى..خاصةً معك، لذا دعنى أتجاوز تلك المقدمة التى أضطر فيها لتبرير أسباب غيابى، ستكون مكررة ومبتذلة للغاية ككل شىء مبتذل ومكرر، لذا دعنا ننجو بأنفسنا من الوقوع فى دوامة العتاب واللوم والتبرير - على الأقل اليوم- أعى جيدًا إن العتاب محبة، ولا أظنك تشكك ولو لثوانى فى مقدار المحبة التى تُغّلف علاقتنا، لكن أرجوك بسعة صدرك وعميق تفهمك أن تتجاوز فقط عن دفعى للشرح فى هذا الخطاب.


                           أما الآن فأخبرنى..كيف حالك يا صديقى ؟
أنا ؟
أنا بخير يا على ..بخير، إذا تجاوزنا حالة الإنهاك الجسدى الغريبة التى أمر بها، والتى دفعتنى للذهاب للطبيب..فأنا بخير، إذا تجاوزنا أننى بعد عناء المشوار لم أجد الطبيب فى عيادته، وأنت تعلم كيف أن زيارة أى طبيب تكن هى الأوبشن الأخير بالنسبة لى بعد أن أراوغ نفسى كثيرًا وأتحايل عليها لإقناعها بأن الموضوع " شوية تعب ويروحوا لحالهم"  فأنا بخير..


أنا بخير رغم نوبة صغيرة من الإحباط لا أدرى هل لها علاقة بإرهاقى الجسدى أم لا؟ ..لا أعلم إن كانت لها علاقة بتلك الأوجاع الوطنية وحالة الصرع المجتمعى والحياد عن كل ماهو منطقى أم لا ؟


هل تعرف يا على ؟ أنا لا أعلم أى شىء..وتختلط فى ذهنى كل تلك الأمور التى تعاملت معها على أنها يقينيات..أنا بخير يا صديقى إذا نحيّنا ذلك الخوف الحياتى من غد  مبهم جانباً..وإذا لم نلتفت لكل تلك المشاعر السلبية التى أتفنن فى تجاهلها كثيرًا إلى أن تنال منى ..لكن لا تقلق يا صديقى..فعلاً لا تقلق فقد عاهدت نفسى منذ زمن على ألا استسلم لنوبات احباطى وأن أنتشل نفسى منها سريعًا قدر الإمكان..أنا فقط أفسح بعض المجال لفطرتى لأن تتجلى وتعبر عما لا يتوافق معها..هى حالة حياتية عادية يا صديقى وجزء من وجودنا وتركيبتنا الإنسانية ..صحيح أنك كائن فضائى ولكن كما أخبرتك فى خطاب سابق أظن أن الإنسانيات تسرى على كل المخلوقات..لذا فأعرف أنك ستتفهم ما أمر به ..ولذا أرجوك ألا تفزع وتأكد أننى حقًا بخير..أو بالأحرى سأكون قريبًا فى خير حال.


وحتى لا أثير فزعك فدعنى أخبرك عن بعض الانتصارات الصغيرة التى حققتها مؤخرًا..لقد قمت بزيارة طالما تم تأجيلها لطبيب الأسنان وقد تمكن بمهارته من محاصرة تلك "السوسة" اللعينة التى سلبتنى هدوئى لأيام طوال ( وعليك أن تلتفت لحالة النشاط المفرط والتغير الكبير الذى دفعنى لزيارة طبيبين فى أسبوع واحد..وهى ظاهرة كونية فى عالمى تستحق إخضاعها للدراسة والفحص والتدقيق من كل العلماء  المهتمين بما وراء الطبيعة)..ذلك بغض النظر عن تلك المشاجرة الصغيرة مع ذلك الشخص الذى حاول عبثُا أن يتحايل علىَ ليسبقنى فى الكشف.


كما أننى يا صديقى أعددت قالبًا من كيك الشيكولاتة بعد فترة غياب طالت عن المطبخ..وقد أشاد به الجميع وأنت تعرف تلك النزعة الأنثوية التى تصيبك بسعادة حمقاء حينما يثنى الآخرون على طبخك.. أنا على يقين بأنك تعرف هذا الشعور من خلال نساء كوكبكم..بل وأراهن أن نساء بلوتو تمامًا كنساء الأرض..أراهن على أن مشاعرنا الأنثوية واحدة فى كل كوكب وكل مجرة، مهما أختلفت أشكالنا وألواننا وأحجامنا.. كان قالب الكيك انتصارًا صغيرًا بغض النظر عن خطأى فى تقدير منتصف الكيك تحديدًا لأقسمه بالسكين وأحشوه بالشيكولاتة..كان حادثًا صغيرًا لكننى نجحت فى إخفاء جريمتى بمهارة ، وفى النهاية لم يلحظ أحد ..وأرجو ألا تخبرهم بما فعلت.


نعم يا صديقى هى انتصارات برغم تلك المشاجرة وبرغم ذلك الخطأ الأحمق الذى شوّه شكل الكيك بعض الشىء..هل فهمت ما أود قوله يا صديقى ؟

 انتصارتنا فى الحياة ليست خالصة.. ليست خالية من  العقبات أو منزهة عن الخروج عن النص ببعض الحماقات والأخطاء الجانبية سواء تسببت فيها أنت أو أوجدتها الظروف فى طريقك..وربما أكبر انتصاراتنا فى الحياة هى التى نتمكن من تحقيقها فى ظروف معاكسة..وقتها فقط تشعر بلذة ما حققت.


  قِس على ذلك يا صديقى كل النجاحات الحياتية، ووقتها ستدرك فقط أن المشكلة تكن أحيانًا فى تقديرنا الخاطىء للأمور..فى انتزاع الفرحة من صدورنا بإيدينا  عند أول شىء غير متوقع، أو ربما بــ " استسهالنا" قرار الإنسحاب و السير بعيدًا  عند أول مشكلة دون محاولة بذل أى مجهود للحفاظ على ما نمتلك أو لاستكمال ما بدأناه، رغم أن كل الأشياء الجميلة لا تأتى بسهولة..لا تأتى بسهولة أبدًا يا صديقى، وكما قال عز الدين شكرى فشير " الفصل بين الأشياء لا يحدث إلا فى قصص الأطفال "..وعلينا يا صديقى أن نتقبل الأشياء " باكيدج" على بعضها، إذا أردنا الوصول فى النهاية لمعنى مكتمل..لأن معانى الأشياء لا تكتمل إلا بإقتران الأضداد معًا..المهم الصبر يا صديقى والنفَس الطويل لاستيعاب المعنى وجنى حلاوة الصبر..فكما تغنَت بها أنغام مرة " الشوك تسقيه يطرح لك ورد" .


ألَهمنى الله وإياك الصبر يا صديقى..وأذاقنا حلاوة المعنى بلا عناء.


من كوكب الأرض
                        مع تحياتى ،،


الاثنين، 16 مارس 2015

بلوتو الدور الرابع 13- حتى لا نهرتل

((إهداء إلى صديقتى التى تعلم نفسها جيداً))


عزيزى على، صديقى الفضائى القريب جداً..البعيد جداً

كيف حالك يا صديقى ؟


دعنى أخبرك مباشرةً بما أنتوى قوله بلا أى مقدمات..

أخبرتك فى خطاب سابق أننا  أحوج ما يكون للوضوح والمباشَرة بدلاً من كل هذه المقدمات التى إن سلمنّا أنفسنا لها واستغرقنا فيها، قد ننسى أن الهدف فى النهاية هو الوصول لنهاية أصلاً، وبالمناسبة فالأمر قابل للتطبيق على شتى شئون الحياة، فالإغراق فى المقدمات والتفاصيل الجانبية لا يعنى بالضرورة حسن الاستعداد لما تمهد له.. بل قد يشتتك ذلك ويجعلك تنجرف بعيداً عن الهدف النهائى،  اهتمامك بالتفاصيل مهم يا صديقى، بشرط ألا تنغمس فيها على حساب الرؤية الكلية للمشهد عموماً، وإلا أهدرت طاقتك واستنزفت نفسك فى الاهتمام بأشياء لن تصل بك فى النهاية لأى شىء حقيقى،  وهو أمر مرهق يا صديقى ..مرهق للغاية أن تقطع مسافات طويلة لا تصل بك فى النهاية لأى مكان، فلا يطالك سوى عناء المشوار.


دعنى أخبرك مباشرةً وبحزم أيضاً يا على أنك فى تلك المرحلة الحياتية فى أشد ما يكون للمباشَرة والحزم..صحيح أننى لا أعرف أصلاً أنت فى أى مرحلة فى حياتك الآن، ولا أذكر إن كنت يوم ابتدعتك فى خيالى  فى تلك السنوات البعيدة قد رسمت لك فى مخيلتى عمر محدد، بل فى الواقع لم يصل حتى خيالى يوماً لمتوسط أعمار الفضائيين، وبناءً عليه فمحتمل  أن  تكون كبراد بيت فى ذلك الفيلم حينما كان عمره يسير فى اتجاه معاكس ..وُلد عجوزاً ثم تصابى مع السنوات ، غير مستبعد..فأنت فضائى ولابد أنك تختلف عنا نحن مخلوقات الأرض كثيراً، غير مستبعد..لكنه غير مهم..فالمهم دائماً هو وجود أرضية مشتركة تحتوى كل الاختلافات لتذوب الخلافات، وأنا أعلم أنك ستعى ما أقول وتتفهمه، وهذا ما يعنينى.


المهم..بالعودة لموضوعنا

دعنى أضع أمامك تلك الخبرة المحدودة التى ربما تُجنبّك بعض الأذى إذا ما انتبهت لها ..الحزم يا صديقى لا يقتصر معناه فقط فى تدخلك القوى والحاسم مع الآخرين من أجل رسم الحدود التى تضمن لكم جميعاً العيش فى سلام دون تجنى أحد على الآخر، فمثلما ترسم  الدول حدودها ومياهها الإقليمية ومجالها الجوى، لتعرف جيرانها من الدول مالها وما عليها، لكيلا يحدث اختراق لتلك الحدود قد يتطور لنزاع حقيقى، نحتاج أيضاً كأشخاص توضيح الخطوط الفاصلة فى تعاملاتنا مع الاخرين، حتى لا تحدث بيننا أزمات قد تتطور لنزاع حقيقى أيضاً، لكن ليس هذا ما أقصده فقط ،  لا يقتصر الحزم يا صديقى على هذا المعنى الكلاسيكى فحسب، هناك نوع أخر من الحزم  إن امتلكته جنبّت نفسك الاستهلاك فى اللا شىء ، وانتشلتها من الدخول فى صراعات حياتية أنت فى غنى عنها ، ..الحزم مع نفسك يا صديقى..أن تمتلك السيطرة على جموحك فتحجّمه فى الوقت المناسب ..أن تمتلك القدرة على التمييز لتحديد النقطة التى ينبغى عندها أن تعلنها صراحةً " مش لاعب" ، التوقيت يا على ..التوقيت والقدرة على أن تضع نقطة فى نهاية الجملة إذا ما أرتأى لك أنها لم تعد مفيدة وغير تامة المعنى.


أما المباشَرة  يا صديقى فهى ألا تضلل نفسك بتجميل ما ليس جميلاً، أن تكون على قدر من الشفافية مع نفسك فلا ترغمها على تصديق ما لا ينبغى تصديقه لمجرد كونك أضعف من أن تواجه حقيقة موجعة جافة ، صدقنى يا صديقى حقيقة موجعة خير من وهم جميل، لأن لا وجع يدوم مهما امتد زمنه، سينتهى وتبقى العبرة، وكذلك فجمال ما تقنع نفسك به كذباً سينتهى فى يوم ما مهما امتد زمن خداعك لذاتك، سينتهى وينطفىء بريقه الزائف، والخوف كل الخوف،  أن ينتهى ذلك بعد أن يطفىء فى داخلك  أنت الآخر شىء .


فأرجوك يا صديقى إياك أن تلقى بنفسك فى تلك الدائرة المفرغة، راجع نفسك بشكل دورى؛ لتقّيم ما تعيشه..فّنِد ما تشعر به، وكن حازماً فى حفاظك على ما يستحق، وفى ركلك لما يرهقك ، اركله بكل ما أوتيت من قوة خارج حياتك لتفسح مجالاً لما هو أصدق ..لما يشعرك باتساق وسلام حقيقى ، وإياك إياك  أن تكون ذلك الشخص البائس الضعيف العاجز عن اتخاذ قرار، أو أن ترتضى لنفسك بوضع لا يسعدك ظناً منك أن هذا كل ما تتيحه لك الحياة، فهذا سوء تقدير لنفسك يا صديقى .

وكما قال عمر طاهر فإذا لم تؤمن بوضع نقطة فى نهاية السطر..ستظل تهرتل إلى ما لا نهاية.

من كوكب الأرض
                       مع تحياتى ،،


الأحد، 22 فبراير 2015

أثقل من رضوى

ربما ما رسمته فى مخيلتى مناهج التعليم البائسة على مر سنوات الدراسة أن القدوة أو الشخص الناجح الذى يُحتذى به هو بالضرورة مخترع ما، شخص نابغة فى دراسته..يرتدى نظارة طبية مقعرة وفاشل اجتماعياً لأنه يقضى وقته فى مطالعة الكتب أو فى إضافة مركبات إلى بعضها البعض فى المعمل عبر تلك الأنابيب الزجاجية الضيقة ، أحاول التطبيق على أرض الواقع فلا أجد حولى مخترعين اللهم باستثناء بعض الأشخاص - من المنوفية على الأغلب- ولكنى لا استطيع التوحد معهم إطلاقاً أو اعتبارهم نموذج يمكن للمرء التطلع إليه، فينتابنى بعض التيه بين ما تلقنك إياه الكتب، وما تقدمه لك الحياة.


أفكر كثيراً حينما أواجه مشكلة ما ، لماذا لا أقابل الشخص العجوز الحكيم ، ذا الشعر الأبيض الطويل كما تصوره الأفلام عادةً، ذلك الشخص الذى يظهر لك فى ذروة أحداث حياتك ويصاحبه الدخان الكثيف من كل جانب ، تمهيداً للحظة  التنوير التى ينتهى فيها تشابك وتعقيد الأحداث بعدما يلهمك ذلك الحكيم بعبارات رنانة تجد فيها حل كل مشاكلك ، أنظر حولى دائماً ولا أجد أكثر حكمة من شخص مجنون يسير فى الشارع محدثاً نفسه، أو متحدثاً إلى خلق الله، بعبارات بالفعل تلمس قلبك وروحك، وتستجديك لأن تسير وراءه فى الشوارع لتتحول إلى واحداً من مريديه لتنهل من عباراته العاقلة التى يتفوه بها ذلك المجنون..أقف أمام تلك الحقيقة، فأجد الفارق بين  ما تصدره لنا السينما تحديداً ، وما تصفعنا به الحياة..شاسعاً.


ربما عبرت هند صبرى بحرفية شديدة عن أمر مشابه، فى ذلك الفيلم بقولها : " زمان كنت فاكرة إن الحب دة حاجة كبيرة أوى ، زى إنك تقف قدام اللى بتحبه وتاخد رصاصة مكانه مثلاً، بعدين لما كبرت عرفت إن الحب أبسط من كدة بكتير " ، فاستفر فى ذهنى أن معظم ما يختلط فى رؤوسنا من مفاهيم و معتقدات ، هى فى حقيقتها أبسط ..أبسط بكثير مما نتصوره، فربما الشخص الذى تستمد منه حكمة حياتية ما، ليس فى حقيقته حكيماً بلا أخطاء يمتلك مفاتيح الإجابة على كل شىء، وليس مَن بإمكانه أن يتحول لنموذج يُحتذى به هو بالضرورة شخصاً ناجحا ً فى حياته ذلك النجاح المبهر..فالمسألة بالفعل أبسط من ذلك بكثير، وعادةً هذه الشخصية الملهمة فى حياتك ،لا تتركز فى شخص واحد من الأساس، وإنما تتوزع على أشخاص كثيرة فى مراحل حياتك المختلفة، فتأخذ من كل شخص ما يضيف إلى رصيدك الحياتى، بما تجده فى قصته من أمور تجعلك تتوحد معه حياتياً.


استناداً على ماسبق ، عزيزتى رضوى ..أنتِ واحدة من هولاء الذين أضفوا على حياتى معنى جديد ، وربما أنا مدينة لكِ  أولاً بشكر عميق وامتنان صادق، على كل تلك الأوقات التى تنتشيلينى فيها من اكتئاب محقق، فتجعلى روحى أكثر خفة بعدما تحرريها مما يُثقلها، لا بتقديمك حلول ..ولا بأعمال بطولية، وإنما بتلك الأفعال البسيطة الدافئة، كأن تصطحبينى بسيارتك للتحدث قليلاً..ثم لتسمعيننى تلك البلاى ليست التى أعددتيها لنستمع لها سوياً، فيأخذنا الحديث للبحث فى معانى تلك الأغانى وتحليلها وتحليل ما جاء بها من قصص، ثم يتسع الحديث ليمتد للحياة عموماً وما بها من قصص، هذا بغض النظر عن عدم فهمنا الدقيق حتى هذه اللحظة لأغنية "سيرة الأراجوز"، أو "علقت نفسك بيا ليه"، رغم اجتهادنا فى تحليلهما.


أشكرك على كل مرة أجلستينى فيها على الرصيف ، وعلى كل مرة  اصطحبتينى فيها لمكان ما لمجرد أننى أخبرتك فى مرة سابقة أننى أود الذهاب إلى هناك، مازلت أتذكر تلك المرة التى جلسنا فيها على الأرض فى تلك الحديقة ..وتلك المرة التى جلسنا فيها على درجات تلك البناية لنتحدث حديثاً ساذجاً عن النجوم ونحن معلقين رؤوسنا فى السماء كالبلهاء، لينتهى الأمر بغنائنا سوياً لمحمد منير و حميد الشاعرى ..أشكرك على كل مرة  جعلتينى أغنى معك فى السيارة بصوت عالى أغانى عمرو دياب القديمة ..ربما سأشكرك أيضاً على تلك المرة التى سألتنيى فيها هل تودين ركوب دراجة..فأجبتك نعم، لأجدك تنادي على ذلك الفتى الصغير لتستعيرى دراجته..وأحمد الله أن الفتى لم يسمعك حفاظاً على ماء وجهنا..وأذكر أننى وقفت مذهولة من جنونك حينها..

أعلم جيداً أننى إذا أخبرتك فى يوم ما أننى أرغب فى الاتجاه للصحراء الشرقية لمعاينة نوع الرمال هناك، أو السفر لشلاتين لشراء كراسة مربعات، سأجد فيكِ خير مشجع وداعم ، بل و رفيق أيضاً.


أما بعد الشكر ، فقد تعلمت منك يا صديقتى أن على الحياة أن تجد لأرواحنا سبيلاً رغم قسوة ما نواجه،، أعلم وتعلمين جيداً أنكِ ربما واجهتى ظروفاً ليست بهينة..ثقيلة ..أثقل من جسدك الصغير ، لكنك كنتِ دائماً الفائزة فى النهاية ..وربما هذا ما لا تعلميه و تشككين فيه دائماً ..ربما تواجهين ما هو أثقل من رضوى،، لكنك تنتصرين عليه بنفس محبة للحياة وروح خفيفة ..تُدهشنى حقاً :)


** العنوان مستلهم من رواية الكاتبة الراحلة رضوى عاشور ، التى تحمل نفس الاسم.


الجمعة، 13 فبراير 2015

أنا واخى

كانت البداية آنذاك ..
وقت أن أقتضت ظروف سفر أمى أن أتحمل مسئولية المنزل لشهر كامل ، حينها تماماً أستوقفتنى علاقتى بأخى الأصغر ، ذلك الشاب الصغير تلميذ الثانوية العامة وقتها .


مسئولية ما كانت تملؤنى تجاهه هو تحديداً من بين  تفاصيل أسرة بأكملها ألقت على عاتقى وقتها.. من بين تفاصيل عديدة مربكة ..مواعيد دواء أبى ..مواعيد إيقاظ أفراد الأسرة حتى لا يفوت أحدهم موعد مهم أوكلنى بتنبيهه له..أطعمة تنقص المنزل ..وأخرى فى حاجة للإعداد..ماذا سأعد غداً للغداء ..هل أخرجت الكيك من الفرن ؟


من بين قائمة طويلة  لا تنتهى ..كنت أخشى أن أقصر فى حقه هو تحديداً ..لا بأن يفوته موعد درس..ولا بأن يهمل فى استذكار دروسه وهو فى تلك المرحلة المصيرية على الصعيد الدراسى..بل كنت أخشى أن أقصر فى حقه كأخت كبرى تعلم جيداً ما يمر به من تغيرات جسام فى فترة تشكيل لشخصه على الصعيد الحياتى.


كنت أخشى من لجوءه إلىّ لاستيضاح تفصيلة حياتية ما ..كنت أسعد بذلك و أخاف فى ذات الوقت ..أسعد لثقته فى وأخاف منها..أخاف أن اخذله بتقديم إجابة خاطئة ..وأخاف أن يأخذنى مرجع دائم له فى حكمه على الأشياء...أتذكر فشير فى كتابه باب الخروج وهو يخاطب ابنه مشدداً على ألا ينخدع فيه كأب ..و أن يعلم - أى ابنه - أن والده ببساطة إنسان ، قابل للوقوع فى الأخطاء و عرضة لأن يشعر بالخوف .


كثيراً ما كنت أقلق إذا تأخر عن موعد عودته المعتاد للمنزل ..أسرع للاتصال به ، يخبرنى بينما تأتينى  أصوات أصدقائه عالية بجانبه ، بأنه سيمضى بعض الوقت معهم ،، أنبهه إلى أنه كان ينبغى عليه الاتصال أولاً ..أغلق الهاتف و أفكر ..هل أتمادى فى قلقى عليه ؟ 


أردد على نفسى  أنه صار رجلاً وعليكِ الاحتراس بعدم مطاردته .. لا أطارده فعلياً ، وهو ما يشفع لي..و إنما يطاردنى إحساس بمسئولية ما تجاهه ..لا أعبر عنه صراحةً ، لأرسخ داخله فكرة اعتماده على نفسه.


أفكر فى أمى ..كيف تشعر حيالنا جميعاً ..كيف لهذه المشاعر أن تنحصر فى جسد واحد تجاه جميع أفراد الأسرة ..التمس لها العذر هى وأبى لنظرتهما لنا  أنا و اخوتى على أننا صغار..أتذكر جملة من فيلم لا أتذكره هو شخصياً، بينما يوجه أب لابنه هذه العبارة : " هتفضل صغير مهما كبرت ..مش هتكبر عليا أبداً "..
اتذكر العبارة وابتسم فى داخلى إذ أرى أخى الأصغر صغير فعلياً حتى وإن صار طوله يفوقنى ويتطلب منى أن أنظر لأعلى و أنا أحدثه ، ثم أحرص حرصاً شديداً على أن اكتم هذا الشعور داخلى حتى لا يصله مباشرة ..أبلغه صرت كبيراً و بإمكانك الحكم على الأشياء ..وتزداد مساحة التماسى للأعذار لأبى وأمى لإصرارهما على رؤيتنا صغار  .


أهرب عن عمد من إمداده برأيى مباشرةً ، بعد أن وجدته يكثر من السؤال عن رأيى ..أخشى أن يؤثر ذلك على قدرته فى إتخاذ القرارت مهما بلغت تفاهة الأمر " ارتدى ذلك التى شيرت أم ذاك ؟ أذهب للجامعة غداً أم لا " ..أهرب ويؤلمنى إن شعر أنى لا أهتم ..وأعلم أنه سيعلم فيما بعد أن هروبى غرضه التقويم ، وأن أخلق فى داخله قدرة على اتخاذ قرار فيما سفه من أشياء ..لكيلا يقف عاجزاً فى يوم ما عن التحرك بدون توجيه امام الأمور الكبيرة.. أبقى نفسى بعيدة بعض الشىء..أعطى مفاتيح للإجابة حتى لا اتركه حائراً تماماً ..ثم أترك له القرار.


أسعد به وأنا أراه رجلاً يسافر بمفرده مع أصدقائه .. وأنا اراه يأخذ قراراً بتجربة عمل فى فترة الصيف  ..أطمئن وتقل حدة ما أشعر به تجاهه..ابتسم داخلى و أنا أراه يفضل الخروج مع اصدقاءه بينما يتلكأ فى الخروج معى..أدرك وقتها أنه وجد عالمه الخاص. 

السبت، 7 فبراير 2015

بلوتو الدور الرابع 12 - مسودة

أربعة شهور مرت على خطابى الأخير لك، وأحداث كثيرة مرت خلال الشهور الأربعة، وتغيرات جسام نالت منى ، وكنت أنت حاضر فى كل ذلك رغم المسافات.. وتعقيدات الجغرافيا ..وطلاسم الحسابات الفلكية ، بين هنا وهناك، بينى وبينك.


صديقى على ..عزيزى الفضائى الحاضر دائماً حضور يطغى على وحشة المسافات

كيف حالك يا صديقى ؟ 


انشغلت كثيراً عنك..وانشغلت كثيراً بك ..ولا أعلم إن كنت ستصدقنى أن الانشغالان تلازما طوال الوقت ،عنك وبك  ..كنت أتخيل فى عز انشغالى ، كيف سأقص عليك ما أواجه ؟ كيف سأرتب الكلام و من أين أبدأ حتى لا تفوتك تفاصيل ما أمر به ؟

كنت معى فى كل تلك الأشياء ..فى خلفية عقلى..هناك فى تلك النقطة الكامنة فى أغوار رأسى، أفسحت لك تلك المساحة لتستقر فيها فصرت أصطحبك معى فى كل مكان وأشركك معى فى كل الأشياء.


ربما كان يزعجنى فى البداية وجودك الطاغى على كل الأشياء وكل التفاصيل ، ثم أصبحت أتجاهل انزعاجى هذا ، تماماً تماماً كما تجاهل راسل كرو أصدقائه الخيالين فى فيلمه العبقرى  A beautiful mind.. كان علىّ أيضاً أن أتجاهل وجودك وأقبل به فى الوقت ذاته لأتمكن من المواصلة .

 

ربما لا تفهم ما أعنى تحديداً ، فدعك من ذلك ، ولا تشغل بالك حتى بعمل " سيرش" عما أقول بواسطة سيرفرات رأسك؛ لتتمكن من فهمه كما اتفقنا مسبقاً ، هى ليست تفصيلة أرضية لتبحث عنها وتتمكن أنت الفضائى من فهمها،هى تفصيلة نفسية يا صديقى ..ولا أظن أن تكنولوجيا بلوتو وصلت بكم بالبحث فى ثنايا وخبايا المرء ، وأحمد الله كثيراً على ذلك فى الواقع .

 لذا لن أقصص عليك كل ما فات..لأننى أشعر أنك كنت فيه، ومن العبث أن أعيد عليك ما شاركتنى فيه،أشعر أنك تعلمه..بل تعلمه جيداً !

المهم ..

أجد صعوبة بالغة يا صديقى فى ممارسة روتينى المعتاد..بل وفى ممارسة أحب الأشياء إلى قلبى ..لا أستطع التعاطى مع عالمى كما هو المعتاد منى ، ربما سيزيل بعضاً من احتقانك تجاهى إن أخبرتك أننى حاولت الكتابة لك كثيراً ، وكانت كل المحاولات تنتهى بمسودة ..أنظر لها وأشعر بشىء من الإشمئزاز..ما هذه الترهات التى تكتبينها ؟ 

أشترى كتباً كثيرة ..فتملؤنى تلك البهجة الحمقاء وأنا أتنقل بين أرفف تلك المكتبة التى اعتدت الشراء منها، ويملؤنى شعور عظيم بالانتصار فى تلك اللحظة التى أخرج فيها من المكتبة حاملة لتلك الحقيبة الشفافة ذات الخطوط الخضراء وبها ثلاثة أو أربعة كتب ..انتصار على الاحباط على الأرجح .

ثم أجد صعوبة بالغة فى البدء فى القراءة ..وصعوبة بالغة فى استكمال ما بدأت  قراءته ..وصعوبة بالغة فى فهم كل ذلك التكاسل فى فعل تلك الأشياء المحببة إلى قلبى . 


أشعر بالوحشة من الناس ..لم يعد وجودى بينهم يؤنسنى ، اُجابه ذلك الإحساس السخيف بأننى أصبحت سخيفة ، أجبر نفسى على الإنخراط مع الأخرين..

ثم أجد صعوبة بالغة فى الاستمتاع بالوقت ..مجرد وقت عادى ..عادى للغاية ، بل و أفكر أنه ربما إذا كنت بمفردى خلال هذا الوقت لكان استمتاعى أكبر ..صرت أستمتع بالوحدة يا صديقى ..وهو أمر أندهش منه تماماً !

  

أصمت ..أصمت كثيراً ..كثيراً جداً يا صديقى .. 

ربما لا أعرف ماذا أضيف أيضاً على خطابى ..ربما أجد حتى صعوبة بالغة فى الكتابة .. 

لكننى فقط أردت ألا أطيل فترة انقطاعى عنك لمدة أطول من ذلك ..لذا لن أقرأ ما كتبت لتنقيحه قبل إرساله لك ..لأننى بالقطع وقتها لن أرسله ، لذا فأرجوك سامحنى إن كان خطابى بعد انقطاع أربعة أشهر مخيباً لآمالك، واعتذر إن كان خطابى به شىء من الطاقة السلبية ، وإن وجدته بمثابة مسودة تثير اشمئزازك ..فتذكر أن للصديق حق على صديقه بتحمله فى كل حالاته، وأرجو ألا يؤثر ذلك على قرار زيارتك لكوكبنا ، فمازلت أنتظر هذا القرار ..وهذه الزيارة.


من كوكب الأرض
                  
                        مع تحياتى ،،