الجمعة، 4 سبتمبر 2015

11يوم


يقال دومًا أن المرء يتعرف علي إنسان آخر بداخله في أثناء السفر، ولذلك سمي سفرًا لأنه يسفر عن إنسان جديد.


طردت تلك الفكرة سريعًا من رأسي حينما كنت أفكر في الاحدي عشر يومًا الذين قضيتهم في تلك المدينة الساحلية، مرددة علي نفسي " هو انت كنتي في قارة تانية..دول 3 ساعات ونص بالعربية" !
ولكن حتي وإن لم يكن سفرًا بمعناه المعهود حيث المسافات الطويلة والغياب الكبير وحقائب السفر الضخمة التي تطوي فيها حياتك استعدادًا لسنوات الغربة،  إلا أنها كانت سفرة بعيدًا عن المألوف، مست في داخلي شئ، وأصابت بعض مفاهيمي بضربة مباشرة خلخلتها ،  احدي عشر يومًا قضيتهم مع أصدقائي..دون أهلي..دون جهة تنطم الرحلة.. بسيارة صديقة.


 متي كبرنا وصرنا قادرين علي اتخاذ قرارات مماثلة؟ متي اقتنع ذوينا بأننا " كبار كفاية" لنسافر بمفردنا؟!
أذكر أنني كنت علي وشك العدول عن قرار السفر قبل بضع ساعات من موعد الانطلاق تأثرًا بمرض والدي مؤخرًا..شئ من تأنيب الضمير كان يوخز جزءً ما في قلبي، بينما  كان أفراد أسرتي يدفعونني دفعًا للسفر مرددين " محتاجة تغيري جو"..هل بات الأمر ملحوظ لهذه الدرجة؟.


ربما يجب علي المرء ألا ينساق وراء عاطفته دومًا وإلا ظل في نفس المكان،  ربما تتطلب منك الحياة أن تتحلي بشئ من الغلظة وتجاهل المشاعر التي تبتزك عاطفيًا؛ لتتمكن من السفر لا من مدينة لأخري وإنما  من مرحلة حياتية لغيرها.  



 في الطريق أخبر صديقاتي بشعوري  أننا في فيلم سهر الليالي، حينما هرب الأبطال من حياتهم في القاهرة وأغلقوا هواتفهم وسافروا..كنا تمامًا مثلهم باستثناء غلق الهواتف، كنا جميعًا في حالة هروب..وأظنها فشلت إلا قليًلا أو ربما حالفها بعض النجاح، هربنا جزئيًا من ضغوط قهرتنا بالقاهرة..وآسرتنا في سفرنا بالحديث عنها، فابتعدنا عنها ماديًا بأجسادنا، وفكريًا اصطحبناها معنا لكل مكان..فقط كنا نطردها لخلفية عقلنا تارة..وتارة أخري نفسح لها المجال لتكون كل عقلنا تحت وطأة الهدوء ونسيم البحر الذي يجبرك علي مواجهة ذاتك.ً
يقولون أن قمة الخداع للنفس أن ترتب الفوضي حولك، بينما تتركها في قلبك..وأحسب ذلك صحيح..صحيح تمامًا.


كان اليوم يبدأ بتوك شو بينما نتناول وجبة الإفطار، توك شو حقيقي في كافة الموضوعات التي تطرأ علي أذهاننا، نتبادل الرؤي ووجهات النظر، يأخذنا الحديث لتجارب شخصية، تطفو اختلافات شخصياتنا علي السطح في اختلافنا في بعض رؤانا وأحكامنا التي نطلقها علي الأشياء، بينما ننسجم حد الذوبان في مواضع أخري في الحديث وتتفق وجهات النظر وتتلاقي.


أثبتت لي تلك الأيام أن العيش مع أشخاص تتطابق معك في كل شئ أمر ممل للغاية، لكن المهم أن يكون الاختلاف مغلفًا بشئ من التفهم والاحترام،   ومساحة من النضج تحتوي ذلك الاختلاف ليمكن التعايش معه والاستمتاع به..الاختلاف ممتع ولكن بشرط وجود أرضية مشتركة تضم الثوابت التي لا يمكن الاستغناء عنها في حياتك.


كانت ساعات الفطور تمتد طويلًا، يتخللها الحديث عن بعض الروايات أو الأغاني أو المسلسلات.. ثم الغناء معًا ثم الصمت والشرود،  لم تعد فكرة المصيف ذاتها بعد سنوات من العمر والحياة، حتي أننا جميعًا لم نجلب معنا ملابس البحر، ومن جلبتها لم تخرجها من حقيبة السفر، كانت النية مبيتة للسكون..ربما تبدل في أذهاننا مفهوم الترفيه عن النفس، ربما نستعيده بعد سنوات طوال - إذا كتب الله لنا العمر- تمامًا كتلك العجوز التي كانت تتراقص في ذلك الكافيه مساءً، وضعت عمرها ووقارها جانبًا وانطلقت كطفلة تؤدي حركات بهلوانية علي مرأي ومسمع من الجميع، ..تسللت رغمًا عنا جميعًا ابتسامة لشفاهنا، كنا بلا وعي نشجعها ضمنًا علي الاستمتاع بالحياة، وعلي ما نعجز نحن عن تحقيقه لقيود كثيرة، ..كانت البهجة علي وجهها بعد أن غالبت خجلها ترغمك علي أن تشجعها..كانت حينها هي الشابة ونحن العجائز.

جعلتني تلك العجوز الشابة أفكر كثيرًا في ثقافة الترفيه عن النفس التي نتناساها طويلًا ونحسبها من رفاهيات الحياة، فنتحول كهولًا أو موظفين في الحياة تحيا بلا روح، تدور في ساقية المفروض، نلهث وراء ما يكفل لنا سد جوع أفواهنا متناسين تغذية أرواحنا.
أما نحن حينها فكنا كذلك الكوميك الذي يظهر فيه شابًا يجلس ممدًدا علي أريكته وهو يشاهد التلفاز وفي يده بعض الطعام، بينما تصاحب الكوميك كلمات" تعرف إنك كبرت لما تبقي بتقضي يوم الأجازة كدة".


تطل إلي رأسي زوجة خالي التي تعدت الخمسين وهي تخبرني ذات يوم بحماسة مفرطة عن مباراة كرة اليد التي أصرت علي الذهاب لها بصحبة خالي بعد أن أهدتها صديقة دعوة للمباراة، سألتها حينها" هو أنتِ بتحبي كرة اليد يا طنط؟" فأجابتني بنبرة فاطعة :" لأ.. و لا أفهم فيها حاجة، بس كنت محتاجة نعمل حاجة تحسسني إننا لسة عايشين، صوتي راح من التشجيع" .

كانت لمعة عينيها وقتها كافية، وأدركت  حينها أنني يجب أن أقاتل من أجل ذلك الإحساس ومن أجل لمعة العين تلك، أخبرت صديقاتي عن تلك القصة بينما كنا نتناول فطورنا، وأدركت حينها لما تراقصت العجوز أمام الجميع رغم إنحناءة ظهرها.



أحببت في رحلتي تلك فكرة الاستقلال المؤقت، وأذكر أنني قرأت ذات مرة عن معني مشابه، كان كاتب المقال حينها يشدد علي أهمية أن تبتعد ولو مؤقتًا في مرحلة ما من حياتك عن المكان الذي تربيت فيه وتخوض تجربة العيش بمفردك، وتستمتع بفرصة استكشاف نفسك، تحدثت مع صديقتي خلال سفرنا في تلك الفكرة، فأخبرتني عن صعوبة الفكرة رغم جمالها، استخدمت حينها تعبير " بتشيلي مسؤلية نفسك من أول البيت مفيهوش ملح وفلفل..وصولًا للأمور الجوهرية"..كانت تردد ذلك بينما نبحث في السوبر ماركت عن توابل للأرز.

تجولنا بين أرفف السوبر ماركت ونحن نتناقش في معني أنه قد لا تدرك في نفسك قدر المسؤلية إلا حينما توكل بها..وكما يقال أنت أقوي كثيرًا مما تعتقد.


من بين أرفف السوبر ماركت، ومما أنتهت إليه نقاشاتنا وقت الإفطار..من إجمالي جلسات المساء الممتدة للصباح أمام البحر..كانت خلاصة الاحدي عشر يومًا: انتهز كل فرصة تعيد فيها اكتشاف ذاتك..وتستعيد بها شغفك للحياة.. انخرط في النقاشات..استمتع بالاختلافات وانتقي منها ما يمكن إضافته لشخصيتك..وإياك إياك أن تقبل بأن تحولك الحياة لموظف أو أن ترتضي لها بأن تسلب منك لمعة عينيك..قاوم.