الجمعة، 23 أكتوبر 2015

تجربة ال 30..إلا عامين

لا أعلم إن كان مسموح لى بالتنظير حول سن ال 28، أم أنه لا يحق لى الكلام قبل "تقفيل" ثلاثة عقود بالتمام والكمال.
كل أصدقائى ممن يكبروننى سنًا شًكل لديهم سن الثلاثين تجربة مختلفة، ربما هى  المرحلة التى تتلقى فيها لسبب ما أول  صفعة حياتية تخبرك: " مبقتش صغير"، الثلاثين هى التجربة التى تدرك حينها - على حد وصفهم- أنك مطالب بتقديم كشف حساب ما للمجتمع، عليك أن تبرر للمجتمع أين كنت خلال السنوات المنقضية من عمرك، وماذا حققت فيهم، لا أعلم تحديدًا من أقر ذلك..لكن بالفعل اشترك جميع أصدقائى فى  الإحساس ذاته..تسلل إليهم جميعًا، وربما صحب معه شىء من الإكتئاب لدى بعضهم.


لم أبلغ الثلاثين بعد..ولا أعرف  ماذا سيكون شعورى حينها -إن كتب لى الله العمر-، لا تفزعنى الأرقام  فى حد ذاتها ولا ألق بالًا لفكرة الفزع من التقدم سنًا وما حققته وما لم أحققه، لا أشعر أصلًأ بأنه ينبغى تحقيق شيئًا بعينه قبل سن معين، أتجنب قدر الإمكان الاستسلام لهذا الهلع المجتمعى المسيطر على الكثيرين بأننا فى سباق وعلينا أن نلهث جميعًا.. يجب أن نجرى " علشان نلحق"، لا أعلم كينونة ذلك الشىء الذى يجب أن نجرى لنلحق به، كل ما أعلمه أن الجرى مرهق، وأننا لسنا مضطرين للجرى مالم يكن نتاجًا لرغبة حقيقية منا، أما فكرة الجرى لمجرد إن " كله بيجرى" لم استسغها قط،  ربما تنتهى دومًا نقاشاتى مع بعض الصديقات فى هذا الأمر باتهامات صريحة لى بأنى حالمة ..غير واقعية، صياغات مهذبة منهم لما استشعرهم يودون قوله لى ويمتنعون تأدبًا: " أنتِ مغفلة"..  لم يثبت بعد مَن منا قد جَانبه الصواب " ومين اللى فاهمها صح"، فى الواقع أدرك أننا جميعًا مضحوك علينا بشكل أو بأخر، ولا يمتلك أى منا صياغة مثلى لحياته، ربما أنا وهم على قدر من الصواب والخطأ معًا فى نفس الوقت، كلٌ وفق تفكيره وأولوياته والمفاهيم التى يقرها عقله للحياة بمناحيها المختلفة ويرتضيها لنفسه.


أنا على وشك بلوغ ال 28 ..  ولسبب ما،  أحسبها تجربة حياتية مختلفة تستحق التوثيق؛ ربما لأنه سنًا لمست فيه تغييرات حقيقية فى شخصيتى ومفاهيمى التى صغتها تجاه الدنيا والناس، صحيح أن جزء كبير من تلك المفاهيم ثبت سذاجته، لكن ربما اكتشاف سذاجتك هو أول الطريق نحو الحكمة، قياسًا على قاعدة " اقترافك للخطأ هو الوسيلة المثلى لمعرفة الصواب".


أحببت النصف الثانى من العشرينات رغم صعوبته.. رغم أنه فعلًا سن ملبد بكثير من التخبط والتوهان والسير بخطى ثابتة نحو شيئًا لا تعرفه؛ لأنك أصلًا لا تعرف ما هى الجهة التى ينبغى سلكها، والمضمونة نتائجها..فى الواقع ستكتشف أن لا شىء مضمون أصلًا ، وأن كل تجاربنا اجتهادات لا أكثر وقد يصدف أحيانًا أن تكن محصلتها إيجابية فنتصور أننا " كنا حاسبينها صح".


 النصف الثانى من العشرينات هو البداية الحقيقية للدوران فى حلقات مفرغة مرهقة للغاية،  ربما يكن طريقك أسهل خلال سنوات الدراسة..تنتهى سنة دراسية فتبدأ الأخرى دون أن تنشغل كثيرًا بما ينبغى عليك فعله سوى الانتقال للسنة الدراسية الجديدة..فجأة تنتهى كل سنوات دراستك فتشعر بأنك " هنّجت" ولا تعرف ما الذى ينبغى فعله فيما بعد، هنا تمامًا تبدأ مرحلة " هو إيه اللى المفروض يحصل دلوقتى"،  وفى الواقع..لا أحد يخبرك أبدًا بالمفروض..أو ربما يقدمون  فقط اجتهادات قد لا تناسب حياتك.. وبين الحالتين تبدأ تجربتك الحياتية الحقيقية التى تشّكلك فعلاً وأنت تجتهد لتضع قدمك على الطريق الذى لا يخبرك أحد عن الوصفة المؤدية إليه بدقة..فتتوه بعض الشىء..تتوه كثيرًا على الأرجح، ثم تواصل تجربتك الحياتية تشكيل نفسها وأنت تجتهد لتستقر على مدى مناسبة تلك الاجتهادات التى يقدمها لك الآخرون لتصل لوجهتك.. هل ستثق فى وصفتهم لبلوغ الطريق؟ ماذا عن ثقتك فى اختيارك أنت إن اخترت المغامرة وتجربة طريق أخر؟ هل ستتحمل نتيجة أن تكتشف بعد مشوار طويل أنك سلكت الطريق الخطأ؟


لهذا تماماً أحببت النصف الثانى من العشرينات..رغم قسوته وصعوبته، تجد أنك صرت أكثر تقبلًا لفكرة أن التوهة جزء من بلوغ الطريق.. وأكثر تصالحًا مع أنك قد تسلك الطريق الخطأ من الأساس، لن تعد قاسيًا على نفسك كما كان الحال فى سن أصغر، ستدرك أن السعى للكمال أمر مرهق للغاية، بخلاف أنه خيالى جدًا وأفلاطونى.. تتعايش مع فكرة أنه ليس بمقدورنا السيطرة على كل شىء في كل وقت.. تصبح أكثر امتنانًا لكل تلك الصفعات الحياتية التى تضيف لرصيد خبراتك وتصقلك، فلن تجرى لتبكى نفسك فى غرفتك؛ أسفًا على قسوة العالم الملىء بالأشرار..ستعى تمامًا أن العالم قاسى فعلاً..وأنه ملىء بالأشرار، وأنه يتحتم عليك قبول ذلك والإقرار  به والتعامل على أساسه، ستعى أيضًا أن تعاملك مع شتى الأمور بجدية بالغة سيصيبك بعدة أمراض مبكرة، فتصبح أهدأ، وإن حالفك الحظ، ستفسح مجالًا أكبر للاهتمام بنفسك.. وإسعاد نفسك قبل أن تحولك تلك السخافات التى تأخذها على محمل الجد إلى كهل فى العشرينات..أو أضعف الإيمان إلى شاب بلا روح.. ممتلىء بالخواء.


فى النصف الثانى من العشرينات ستكتشف أنك للأسف فقدت صداقات كنت تحسبها أقوى، رغم حرصك على ألا يكن خيارك فى يوم ما أن تدير ظهرك وتمضى بعيدًا، صحيح أنه ربما لن تعد لديك تلك الحماسة لاكتساب صداقات ومعارف جديدة، لكنك ستدرك أن الأهم بذل الجهد أولًا للحفاظ على الدوائر المقربة التى "تستحق " مجهوداتك وربما تنازلاتك فى بعض الأحيان.. ثم لا مانع بعدها من شىء من الانفتاح للانخراط مع الآخرين، لكن لسبب ما تكتشف أن كل العلاقات الجديدة " دبلوماسية" لا أكثر.

 لسبب ما سيتراجع مع تقدمك سنًا عشمك فى الآخرين أيًا كانت درجة قربهم..وهو مفهوم رغم قسوته إلا أنه مشرق فى جانب منه؛ حيث يزداد مع تراجع عشمك فى الآخرين مدى اعتمادك على نفسك بصورة أكبر.


اقترب من الثمانية وعشرين وأنا أكثر هدوءًا فى التعامل مع الحياة، وامتنانًا لتقلباتها غير المحسوبة، ورفقًا بنفسى.. واعتقد إنه إذا كان بالإمكان تلخيص تلك المرحلة العمرية فى عبارة واحدة ستكون:  " سن التوهة الجميل" ..توهة لكل ما ذكرته سلفًا..وجميل لأنها توهة تقربك أكثر من نفسك ..ومن الطريق .


الخميس، 1 أكتوبر 2015

يا أبو الطاقية..أنا قلبى معاك *

كنت حينها أبلغ من العمر أحد عشر عامًا، أو ربما أثنى عشر عامًا..لا أتذكر على وجه الدقة، ولكننى أذكره جيدًا، من بين ضبابيات الذاكرة، وتداخل تفاصيل الأشياء  العالقة فى ذهنى من ذلك الزمن البعيد، بقى هو ساكنًا فى وجدانى بلا أى تشويه.. ذلك الخواجة الخمسينى " أبو طاقية بنى "..وتى شيرت فاتح اللون فى معظم الأحيان..ووجهًا رائقًا لم تعبث به هموم الدنيا، ولم تفلح الأيام فى نزع ابتسامة تعلوه..ابتسامة ودودة للغاية يشهرها فى وجه كل مَن يقابله.


كان صديقًا لخالى، يأتيه ليكتب له خالى على الكمبيوتر قصصه التى يؤّلفها..كان الخواجة كاتبًا..كاتبًا عظيمًا - على الأقل بالنسبة لى - يكتب قصصًا قصيرة جميلة.


كان قادرًا على أن يلمس روحى بكلماته التى أقرأها خلسة فى مكتب خالى الذى يقطن معنا فى نفس البناية آنذاك، كنت أتسلل لغرفة المكتب تلك وأفتح الأوراق التى تركها بخطه؛ ليكتبها خالى، فأذوب مع تفاصيلها وأضحك..أضحك بشدة، وانبهر من قدرته الفائقة على التخيل.


أذكر أن إحدى قصصه كانت تدور عن "صراصير" احتلت مسكنًا، فملأته عن آخره، صارت تتجول فى المنزل غير عابئة بسكانه، إلى أن صار سكانه أيضاً لا يعبأون بهم، تأقلم بنى البشر مع قبائل الصراصير، وصار فقط على كل منهما تنظيم حياته فى وجود الآخر، فكان الزوج والزوجة يجلسان معًا لاحتساء شاي العصارى، واضعين أيديهما على حافة الكوب؛ لكيلا يسقط صرصار فى أى منها، لم تكن القصة مقززة على الإطلاق، بل كانت كوميدية للغاية.. كانت لوحة فنية فى هيئة كلمات، تقرأها فتستحضر الصورة وكأنك ترى مشهد من فيلم، فضلاً عن خياله اللا محدود الذى يصحبك معه فى سفرة لما هو أبعد من الممكن..الممكن تخيله.


كنت حينها أبلغ من العمر أحد عشر عامًا، أو ربما أثنى عشر عامًا..لا أتذكر على وجه الدقة، لكننى أذكر أن قصصه كانت مزيجاً رائعاً بين السرد بحرفية أديب متمكن، وطرافة عجوز لم يعد يرى فى الدنيا إلا نكتة، أو ربما لم يعد يرى الدنيا إلا نكتة.


كنت حينها أبلغ من العمر أحد عشر عامًا، أو ربما أثنى عشر عامًا..لا أتذكر على وجه الدقة، لكننى أذكر أنى كنت أتعمد أن أفتح له الباب إذا علمت أنه سيمر على خالى فى موعد محدد، كنت أفتح الباب، لأفوز بتلك الابتسامة الودودة للغاية، التى يهدينى إياها مع ميل خفيف برأسه فى اتجاهى؛ ليرسل لى تحية بطاقيته المميزة.


لم يكن الخواجة أجنبيًا بالمناسبة، ولكن كانت هيئته توحى بذلك، احتفظت به في ذهنى على أن اسمه " الخواجة"، ولم اهتم حتى بسؤال خالى عن اسمه، لا أذكر أننى تحدثت أصلاً مع خالى بشأنه، ربما لأن أكثر الأشياء التى تلمس قلبك فعلاً..يشوهها الكلام . 


* العنوان مقتبس من أغنية لمحمد منير