الجمعة، 4 ديسمبر 2015

من وحى حمص الشام

ديسمبر شهر دافىء  رغم برودة الطقس النسبية التى يشهدها.. دافىء لسبب ما غير معلوم؛ ربما تسكننىا فيه سكينة الاستسلام لحقيقة  "إن كله بيعّدى" .. ندرك فى ديسمبر أن عامًا قد انقضى بكل ما فيه من أشياء أثقلت القلب، وانتقصت من سلامنا النفسي، سواء إن كانت انقضت على نحو تمنيناه  أو لا، لكنها انقضت، هكذا ببساطة.. انقضت ومضت، ومازلنا أحياء ولم نمت برغم  كل ما رحل عنا بلا رجعة، وكنا نحسبه وحده القادر على إمدادنا بأكسير الحياة.



ديسمبر شهر محبب رغم أن الإحساس بانتهاء شىء ما  يثير دومًا فى النفس شىء من الغصة، لكن ديسمبر يكسر القاعدة، تنتهى فيه سنة، ويولد مع انتهائها الإحساس بأنه مع كل نهاية تولد بداية جديدة، يأتى ديسمبر ليلملم ما تبقى من الأيام، ويمنحنا فى الوقت ذاته أيامًا جديدة، واحتمالات متعددة، وآمال تنتظر تحقيقها.

ربما يخلق ديسمبر فى قلبى إحساس موازى لما تغّنت به أم كلثوم عن ليلة العيد حينما قالت: " وجددتى الأمل فينا".. يجدد  ديسمبر دومًا الأمل فى قلبى.




أفكر فى كل ذلك بينما تقودنى  لسعة برد ديسمبر المحببة باتجاه المطبخ، على الموقد أجد أمى قد أعدت لى حمص الشام الدافىء، فيزداد إحساسى ببهاء ديسمبر، التفت باتجاه حمّالة الأطباق، وفى حركة لا إرادية على طريقة "حافظ مش فاهم" تمتد يداى لالتقاط المّج المزركش المعتاد، ثم شعرت أنه من غير اللائق أن أسكب حمص الشام فى ذلك المّج الأنيق؛ لا تتلائم أبدًا أناقة المج مع الجو النفسى الذى يتطلبه احتساء كوب حمص الشام، ثم أن التعبير نفسه يكشف أنه لا يجوز، فلا أذكر أننى سمعت يومًا أحد يقول " نفسى فى مج حلبسة".. إذن فلنعيد للأشياء أصالتها وأصلها، ولتذهب الحداثة للجحيم، مع الاعتذار لمّجي المزركش المحبب الذى لا يليق به إلا النسكافيه.. ذلك المشروب الارستقراطى.


تدراكت يدى ما يدور فى عقلى، فاستجابت سريعًا للإشارات القادمة لها من المخ، وانتقْلت سريًعا للصف الأول من حمالة الأطباق، حيث يستقر ذلك الكوب الزجاجى.



انتهى بى الأمر جالسة على ذلك المقعد الخشبى الصغير الموضوع فى المطبخ، ممسكة بكوب حمص الشام، ومفسحة المجال ليداى لتذوب فى دفء الحرارة المنبعثة منه، أتذكر جدالى السابق مع أمى؛ لتمسكى بذلك المقعد البائس وتوسلي لها بعدم التخلص منه، إحقاقًا للحق وإنصافًا لأمى، فهو ليس جميل شكلًا، لكننى أحبه للغاية، بلا أى سبب وجيه، ألا يقولون أن الحب في إجماله إذا عُرف له سببًا فسيزول بزوال السبب؟، أخبرت أمى حينها أن الأمر أكثر تعقيدًا من أن أشرحه، ثم شعرت بسذاجة الموقف وأنا أخبر أمى أننى أحب ذلك الكرسي وأن الأسباب يتعذّر عليّ شرحها..أذكر نظرة أمى لي حينها، وربما وافقت على ترك الكرسي فى مكانه بعدما "استعوضت ربنا" في عقل ابنتها، لكننى شعرت حينها بلذة الانتصار، ولسان حالى يردد ما قاله فتحى عبد الوهاب في فيلم كباريه: "الكلام بيجيب نتيجة".



ارتشف قليلًا من حمص الشام اللذيذ، وأفكر أنه لا يوجد ليمون بالمنزل، بالقطع حمص الشام بالليمون أحلى، لكننى ركلت تلك الفكرة سريعًا من رأسي، وعزمت النية على أننى لن أسمح لأى منغصات بأن تعكر صفو الاستمتاع بالحدث الجلل: أنا على مقعدى الصغير البائس ممسكة بكوب حمص شام في ليلة من ليالى ديسمبر المحببة.



قررت حينها أن أسجل إحساسي كتابًة، وأن أدون أنه فى تلك الليلة بينما كنت أحتسي كوب حمص الشام فى إحدى ليالى ديسمبر المحببة أتخذت عدة قرارت مهمة للغاية تشمل: أننى سأتمسك لأخر نفَس بذلك المقعد البائس طالما أنه يعنى لى شيئًا جميلًا، حتى وإن لم يتفهم الآخرون ذلك، وحتى إن لم أكن قادرة على شرح مكانته فى قلبى، فلا يهم الشرح بقدر ما يهم الإحساس بالمعنى، بل ولن أسمح بوصفه بالبائس، لأن أى شىء يخلق فى نفس المرء معنى جميل لا ينبغى له أن يكون بائسًا، سأدون أيضًا أننى لن أسمح لنقصان الليمون أن يسرق منى لذه الاستمتاع بكوب حمص الشام، صحيح أن الليمون كان سيضفى نكهة أجمل، لكن تفويت الاستماع بكوب حمص الشام نفسه اعتراضًا على عدم وجود ليمون ..حماقة وغباء منقطع النظير.


  أظن أن الكرسى الخشبى الصغير خاصتى، والليمون قد أهداننى درسًا  حياتيًا مهمًا فى تلك الليلة: نحتاج التمسك بما نحب وإن اعترض الغير أو إن لم يتفهموا ذلك .. ونحتاج ألا نفسد بهجة الاستمتاع بما نملك بالتحسر على ما ينقصنا.