الثلاثاء، 25 أكتوبر 2016

بلوتو الدور الرابع 18- حتة ناقصة

عزيزى على.. 

صديق الفضاء الأقرب - بعكس المنطق- من بُعد المسافات والكواكب، صديقى القريب جدًا..البعيد جدًا


كيف حالك يا صديقى؟ 
كيف هى الأيام عندك فى بلوتو، هل صارت غريبة كما الحال لدينا على كوكب الأرض؟ لا أعنى بأن الأيام هنا صارت سيئة، وإنما هى فقط غريبة، لم تعد كما اعتدنا، ليست بنفس الطعم، تغيرت لنكهة لم اسستسغها بعد، فجأة تدرك أن القريبين لم يعودوا حولك، وأنك كالغريب وسط المحيطين، تمضى أوقاتًا لطيفة لكنك لا تستطع وصفها بالسعيدة، تضحك لكن دون أن يمس وجدانك أثر الضحك، وتبكى فى غير محل البكاء إن طاوعتك دموعك من الأساس،  تنخرط فى الأحاديث دون أن تشفى حاجتك حقًا من البوح، تستمع دون استمتاع حقيقى بما يٌقال،  وكأن كل شىء ينقصه شىء.


بإمكانك يا صديقى أن تُجرى بحثًا بسيرفرات رأسك - إن كان لك رأس- على فيلم Before Sunrise لتفهم ما أود أن أخبرك إياه، حينما أخبرت البطلة البطل بما معناه أنها قضت أوقاتًا لطيفة كثيرة مع أشخاص تستمتع بالفعل بصحبتهم، لكنها فى كل مرة كان يتسرب لها ذلك الإحساس بأنه ما كان يجب أن تكون هنا الآن.. فى هذا المكان.. أو مع هؤلاء الناس.

أتظن يا على أنها مشكلة الإنسان المعاصر كما حاول ذلك البوست الذى طالعته على فيس بوك مؤخرًا أن يحلل المسألة؟ قالت صاحبة البوست حينها أنه من الصعب مع كثرة الخيارات الحياتية التى أصبحت متاحة أمام المرء فى العصر الحديث أن يشعر مع تعددها بالرضا، وأن الخيارات البسيطة والمحدودة أمام المرء فى أزمنة أقدم، مع بساطتها إلا أنها كانت مُشبعة.. كانت مُرضية.

ربما أقنعتنى صاحبة البوست، حتى أننى وجدت الأمثلة تطل إلى رأسى لأدلل على ما تقوله، فاستحضرت فى ذهنى حالة مَن يشاهد قناة تليفزيونية معينة، ويفوته الإحساس بمتعة ما يشاهد؛ لأن ثمة شعور مُنغّص يشعرك بأن لابد وأن هناك ثمة ما هو أمتع مما تشاهد  يُعرض على قناة أخرى من ذلك العدد اللانهائى من القنوات، وربما ينتهى بك الأمر متجولاً بالريموت كنترول وسط بعض القنوات، لتشاهد شيئًا من هنا على شىء من هناك دون مشاهدة حقيقية ممتعة لشىء واحد بعينه.

أكتب لك ذلك ان وأنا يدور فى ذهنى تلك العبارة التى لا أذكر كاتبها؛ لرداءة ذاكرتى حينما قال: " كانت الخيارات محدودة، لكنها  كانت جميعًا تُسعدك".

لا أعنى ياصديقى أنها أزمة تكنولوجيا وحداثة، رغم أنها من المؤكد تُشّكل عاملاً، ولست ممن يتندمون ليل نهار على ما خرّبته فينا التكنولوجيا، رغم أنها بالفعل قد شوهت فينا الكثير ونالت من إنسانياتنا، لكنى لست ذلك الشخص الذى يمكن أن يُنكر اسهامتها العديدة فى حياتنا وتيسيرها لها، أنا فقط لا أظن الأمر محصورًا فى التكنولوجيا، ولا فى عدم الرضا فقط.

أظن المشكلة صارت يا صديقى فى نمط حياة مزعج لأقصى درجة يطحنك فى اليوم الواحد عدة مرات، يجعلك تلهث طوال الوقت، ضِف إلى ذلك المفاهيم الاجتماعية المحيطة التى صاحبت نمط الحياة هذا، ستجد أنك تُضغط فى نفس الوقت من مائة اتجاه متضاد، البعض يضغطك فى اتجاه تحقيق ذاتك على مستوى شخصى لأنه الأبقى، والبعض الأخر يضغطك فى اتجاه تحقيق ذاتك عمليًا لأنه أيضًا وللعجب الأبقى، والمحصلة أنك إن وقفت فى أى جانب ستشعر بأن ثمة شىء ناقص قد فاتك يوجد فى الجانب الأخر.

قِس ذلك على شتى شئون الحياة يا صديقى، ستجد أن نمط الحياة الضاغط الذى نعيشه يطالبك فى نفس الوقت بتحقيق كل شىء .. وحالاً، كذلك الكوميك الشهير لمحمد سعد - أحد فنانى كوكبنا- ، وهو غاضبًا على عبلة كامل  فى فيلم اللمبى مشيًرا لها بيده وهو يقول مهددًا: "لأ.. دلوقتى".

نلهث.. صرنا نلهث يا صديقى لنتمكن من تحقيق أكبر قدر ممكن من كل تلك الأشياء التى نُدفع دفعًا لتحقيقها تحت ضغط ضرورة أن تفعل، فأصبحنا نمر على كل شىء دون ارتواء من أى شىء.. دون إحساس حقيقى بالشىء.

ربما لذلك يا صديقى كتب مصطفى محمود -أحد مفكرىنا- قائلاً : "أريد لحظة انفعال.. لحظة حب.. لحظة دهشة.. لحظة اكتشاف..لحظة معرفة.. أريد لحظة تجعل لحياتى معنى، إن حياتى من أجل العيش لا معنى لها؛ لأنها مجرد استمرار"


دُمت بخير يا صديقى.. مرتويُا مما تود.. وبعيدًا عن اللهاث ومطاردة ما لا يستحق
                                                من كوكب الأرض.. مع تحياتى،،