الخميس، 10 سبتمبر 2015

يو هاف جوت ميموريز

كانت ميج رايان إلي جواري طوال اليوم..


عرضت ميج متجر الكتب الذي توارثته عن أسرتها للبيع، وما إن أفرغت المتجر من محتوياته إلا ورأت نفسها طفلة تراقص أمها في المتجر كما الأيام الخوالي..كانت تسترجع لحظات جميلة قضتها فيه، اضطرتها الظروف لبيعه..فباعته، ولكن أبت الذكريات أن تتركها إلا بعد أن تتحرش برأسها بعض الشئ؛ لتكتمل الدراما.
هل يمكن أن يتم بيع الأماكن التي احتوتنا طويلًا دون أن تكن المواجهة مع ذكريات العمر المنقضي فيها هي ضريبة المبيعات التي يسددها أصحابها؟



مشهد هامشي في فيلم you've got mail..وربما ليس واحدًا من المشاهد التي يتذكرها المرء من جملة مشاهد أكثر جمالًا وتأثيرًا امتلأ بها الفيلم، ولكنه- أي المشهد- علي قدر بساطته نجح في أن يلتصق بمخيلتي طوال اليوم آنذاك، ربما لأنه محملًا بمعانى احتوت مشاعري المركبة في تلك اللحظة، وربما لأنني وجدت فيه تعزية عن اضطرابي بين جمال الذكريات ،وما تثيره في النفس من شجون، وما يحتمه العقل من ضرورة تخطي كل ذلك لنتمكن من المواصلة، ولنكن علي قدر من المرونة مع معطيات حياتنا المتغيرة.


كانت ميج رايان إلي جواري طوال اليوم، وأنا أطوي حياتي في عدة حقائب؛ استعدادًا للانتقال لمسكن آخر،  غصة ما تسللت إلي قلبي رغم أنني كنت اتطلع لتلك اللحظة التي أترك فيها تلك البناية، تلوثت الذكريات الجميلة بأوقات قاسية فما عاد يمكن الفصل بينهما،  فإن تذكرت جمال لحظة ما اقترن بها تذكري لقسوة لحظة اخري رغمًا عني، تبدلت ملامح البناية فما عادت تحتويني، وما عادت تشبهني..ماعاد أحبائي فيها..باتت موحشة..لم أعد أعرفها..ولا أظن جدرانها تعبأ بتجديد التعرف علي.

صرت غريبة عنها، لكنني أيضًا غريبة في مسكني الجديد، لم أعد أنتمي إلي هناك، لكني أيضًا لا أنتمي إلي هنا، صرت خليط من كليهما إن جاز التعبير، خليط من هنا وهناك دون  انتماء صريح لأي منهما، أظنني فهمت الآن درويش حينما كتب عن حالة " البين بين" .



كنت ألملم أغراضي بسرعة وكأنني أراوغ الذاكرة قبل أن تستدعي شيئًا ما ارتبط يومًا بما أضبه في الحقائب، مناورات عديدة دارت مع ذاكرتي ومع ذلك الجزء الضعيف اللعين في قلبي، ومناوشات شديدة قامت بها ذاكرتي للنبش في رفات ما قد مضي، لا أعلم من انتصر في النهاية، ولا أظن أن مثل هذه المعارك ينتصر فيها طرف ما بشكل كلي، أرهقنا بعضنا البعض أنا وذاكرتي، كل منا كان يجري محاولات ليبقي علي الآخر وكلانا كان يعلم أنه لا مجال للبقاء، شئت أم أبيت تحين اللحظة التي ينبغي عندها أن تطوي الصفحة وتمضي دون أن تجعل التفاتك للخلف يبتزك عاطفيًا ويعيقك فتظل حيثما أنت..في نفس المكان..متجمدًا عند نفس المرحلة  من حياتك وعاجز عن تخطيها.



ربما يحتاج المرء لكثير من هذه اللحظات في حياته لتذكره علي الدوام بأن دوام أي وضع مهما امتد زمنه أمر مؤقت في النهاية، يحتاج المرء للحظات النهاية.. والفقد..والسفر.. والوداع؛ ليدرك المعني الحقيقي للحياة،  ليدرك ما روُى عن قول المصطفى صلى الله عليه وسلم:"أحبب مَن شئت فإنك مفارقه"، نحتاج جميعًا لتلك الصفعات الحياتية؛ لنعي أن ثمة لحظة فراق آتية لا محالة فنجتهد لاستغلال أوقات الوصل والوصال جيدًا.. لندرك أن ثمة وقت رحيل فنبذل كل ما بوسعنا لنشبع من الوجود ونمتلئ به، والأهم لندرك أن هذه الأوقات بما فيها من شجن وما يعقبها من ألم جزء طبيعي من الحياة فنساعد أنفسنا لمجابهة عواطفنا  لتجاوز هذه الأوقات سريعًا بأقل خسائر نفسية ممكنة،  ولنمضي قبل أن تآسرنا عواطفنا وضعفنا الإنساني فنعجز عن المضي قدمًا.


كانت ميج رايان إلي جواري طوال اليوم..تراقب وهي شابة ما استدعته ذاكرتها قبل بيع المتجر، رأت نفسها وهي طفلة تراقص أمها في المتجر كما الأيام الخوالي، كان وجودها يرهقني إذ تحاول عبثًا تأجيج مشاعر أجاهد نفسي لاخمادها، رأت نفسها طفلة تراقص أمها، لكنها كانت ترقص علي ذكرياتي أنا في الواقع..فركلتها سريعًا من ذهني، وأحكمت إغلاق أخر حقيبة وناولتها بخفة لعم دسوقي لينقلها مع بقية الأغراض؛ من أجل بداية جديدة وصنع ذكريات أخري أمني نفسي بأن تكن محببة للقلب أكثر وتشبهه أكثر، ومن أجل الهروب سريعًا من ميج رايان التي كانت إلي جواري طوال اليوم وأنا ألملم حياتي في عدة حقائب.