الجمعة، 10 مايو 2013

بين جيلين

الحكمة التى خلّفتها ثمانية و ستون سنة هى رصيده من الحياة و توشى بها تلك التجاعيد المرسومة على وجهة كلوحة فنية يأسرك سحرها ثم تصيبك بوجع و بعض من الشجن فى الوقت ذاته-أخبرته أن حفيده الشاب ليس على ما يرام..شرود و تقلب مزاج  ثم نوبات صمت طويلة فإستسلام تام للعمل بشراهة دون تركيز تام..حالة كهذه هى حالة إرتباك عاطفى بالقطع ..أخبرته خبرته بذلك ..و لكنها لم تخبره ما الذى ينبغى عليه فعله حيال حفيده..


الفجوة بينهما  لم تكن تعكس صراعا ً كلاسيكيا ً بين أجيال فحسب..و إنما كانت تؤكد أيضا ً أن مفهوم الحب نفسه أختلف على مر الأجيال ..بدا له أن " جيل اليومين دول " يفتقر لتلك النزعة القتالية التى تجعل الحبيب مستعداً للنزال من أجل أن يحسم المعركة لصالحه..كان يرى الأمر من هذا المنظور ..فالحب بالنسبة له معركة ..و لا توجد معركة سهلة ..و إنما وارد جدا ً أن يكون الجندى ليس مؤمناً بقضيته بالشكل الكافى ليقدم لها كافة التضحيات عن طيب خاطر و رضا تام .



نفض رأسه و كأنه يرفض تلك الفكرة ..ربما ستبدو كمدخل إقناعى بالى للغاية تجعل حفيده ينفر منه..يعلم جيدا ً أن جيل حفيده يرفض التلقين و إسداء النصائح بطريقة الوعظ ..إذن فلو استخدم تلك التشبيهات ربما أنفجر حفيده ضحكاً..أو ربما رآه كهلا ً مثير للشفقة يحتاج إلى أن يسترد الشعور بأهميته بأن يبدو الخبير و العالم الذى يوزع النصائح و الإرشادات هنا و هناك.



دارت كل هذه الأفكار فى رأسه و هما معا ً على طاولة العشاء..مرت قرابة خمسة عشر  دقيقة منذ أن وضعا الطعام على الطاولة..خمسة عشر  دقيقة كاملة من التظاهر ..حفيده يتظاهر بأن كل شىء على ما يرام..و هو يتظاهر بأنه لم يكشف إضطراب حفيده..و فى الواقع فضحتهما صحون الطعام التى لم تنقص إلا قليلاً بأن اثناهما فاشل فى التظاهر..



ربما هى تلك اللحظة التى ينبغى فيها على طرف ما التدخل لإنهاء تلك الحلقة المفرغة من اللا فعل..من اللاشىء..من الصمت..و الوجع المتوارى خلف الصمت..لكنه لم يستطع أيضا ً التدخل ..هذا  الذى يردد شعارات النضال من أجل من تحب  و التسلح بالإيمان بقضيتك ..لم يقو على إحتواء  إرتباك حفيده..بل بدا أكثر منه إرتباكا ً..تمنى لو تحدث إليه بعفوية..بلا تعقيدات أو حسابات أو خوف من أن يلقى كلامه مقاومة حفيده..و هناك على الجانب الآخر من الطاولة كان حفيده يتمنى لو يرتمى فى حضن حكمه جده  عّله يجد  حسماً لارتباكه و نهاية لتشوشه..لكن أحداً  منهما لم يفعل شيئا ً رغم رغبة كلا ً منهما فى الفعل..إنه تعقيد العلاقات الإنسانية..غباء تعقيد العلاقات الإنسانية !


انتهى العشاء الصامت ..كان لهذا الوقت المبتذل أن ينتهى ..


جلسا سويا ً يتظاهرا بمشاهدة التليفزيون..تقتضى بروتوكولات العائلة ذلك..أمسك الجد  بالريموت كنترول ..لم تستقر يده على محطة بعينها..حتى انه فوَت فيلمه المفضل و الذى يعلم حفيده جيدا ً بمدى حبه له، كان الفيلم قد جاوز نصفه الأول ..هنا تماما ً تبدأ الأحداث فى النضج..فى أن تستشعرها و تستوضح معالم القصة و تفهمها ،و لكن تجاوزه الجد ..نظر له حفيده مندهشا ً و لكنه لم يبال بذلك الإندهاش..وواصل تنقله بين المحطات .. مضت نصف ساعة فى متابعة  ترهات ، و لكنه كان قتلا ً مقبولا ً للوقت بطريقة " أى كلام فاضى معقول" ..

عاد الجد مرة أخرى لفيلمه المفضل و لكنه كان أنتهى ،وضع الريموت أمام حفيده و هو يهّم بالقيام..لم يتمن له ليلة سعيدة كعادته فى ختم كل ليلة بينهما ،و عوضا ً عن ذلك قال و هو فى طريقة لغرفة نومه " معك حق،كان يجب التوقف عند تلك المحطة ..ظنى بأنه قد يكون هناك ماهو أفضل ضيّع فرصة مؤكدة  أعلم جيدا ً أنها  كانت ستسعدنى " !



دخل غرفته و وجهه تكسوه ابتسامة عريضة من عجوز ماكر..تمنى وقتها فقط أن يعرف هل وصلت حفيده الرسالة أم أن أداءه  كان موحيا ً بالفعل بأنه عجوز يستحق الشفقة .