الخميس، 2 أغسطس 2018

بوسطة 7 - تيتا


حبيبتي تيتا ..
سبعة أشهر مرّوا على رحيلك.. نصف سنة كاملة بدونك.. رمضان وعيد..وأيام كثيرة عرفت فيها كيف كنتِ تُضفين على هذا العالم توزان من نوع ما؛ لأن اختلال ما قد أصاب العالم بعدك..عالمي، كان جميلاً لأنك فيه، وأصبح موحشًا في كثير من جوانبه بعد رحيلك

اليوم ٢-أغسطس..ذكري ميلادك، والحقيقة إنكِ تولدين كل يوم في قلبي من جديد بفيض الذكرى..بفيض كل أثر جميل تركتيه خلفك
حبيبتي..أنا بخير حال، أكتب وأنا في اتزان تام فلا تقلقي..غير إني في حالة افتقاد تام إليكِ..افتقدك كثيرًا، وافتقد التحدث إليكِ، ولأنه لا يمكن التحدث إليكِ، فأظن أن بإمكاني الكتابة عنكِ؛ لأن الكتابة وسيلة لتذكير الآخرين دومًا بمن رحلوا، ووسيلة لأبقيكِ دومًا في الأذهان، أنت سيدة لا تُنسى يا حبيبتي، وأود أن أجدد من حين لآخر إخبار الجميع كم أحببتك، وكم كنت محظوظة بأن ينعم الله عليّ بجدة مثلك..جميلة كما أحب دومًا أن أصفك، وكما يليق بك على الدوام


مازلت اتجنب الوجود في شقتك، وإن اضطرتني الظروف، فأتجنب ما استطعت النظر إلى غرفتك، فراشك الخالي موحش..لا يليق به أن يصمد بعدك، أتذكر تلك الجملة من أغنية أنغام: "والنسيم حس بفراقك سحره غاب"، أراها تنطبق على حال غرفتك بعد رحيلك..هي كما هي، لكن غاب عنها سحرها بغيابك، يبدو أننا لا نحب الأماكن إلا بناسها الذين أحببناهم فيها يا جدتي، وبدونهم تتحول إلى جدران ..مجرد جدران بلا معنى أو روح


مازلت غير متأقلمة على فكرة عدم وجودك بشكل تام، حتى أنني أضبطني مُتلبسة في بعض الأحيان بترتيب يومي متضمنا المرور عليكِ، أو بتجميع بعض المواقف في ذهني لأقصصها عليكِ، ثم انتبه إنه ليس بإمكاني المرور عليكِ، أو إخبارك حكاياتي،  وبقدر كل الشجن لرحيلك، إلا أن رحيل كهذا يثلج صدري؛ لأني لم أركِ تتألمين، لم أركِ ضعيفة، وكأن الله أهداك أكثر ما ميزك طوال حياتك: الخفة، خفة الحضور، وخفة الرحيل


قضيت يومًا في نوبة اشتياق مفرط إليك لأفكر لمَ كنت أحبك؟ أو ما أكثر شيء أفتقده فيك؟ ..فأكتشفت إن شيئا كبيرًا من الحب المستقر في قلبي لكِ كان بفضل أمور بسيطة للغاية، فاستعدت في ذهني ما أخبرتني به صديقة يومًا: "الحب أساسًا مرتبط بأمور ممكن تبان تافهة"..لكنني إن تسنى لي تعديل نظرية صديقتي، فسأكون أكثر ميلاً للتصديق بأن الحب أساسًا مرتبط "بالحنية"، ربما تلتقي نظريتي ونظرية صديقتي في نقطة واحدة وهي أن الحنية قد تظهر في أمور تافهة للغاية، كما كنتِ تفعلين مثلاً بإصرارك على تقطيع الفاكهة لي بيد مرتعشة.. أو في سؤالك الدائم في كل مرة وأنا أهم بالمغادرة بعد زيارتك: "محتاجة فكة للطريق؟".. أو في نظرة منتفضة وقلقة إن ظهر علىّ بعض الإجهاد


أحببتك يا جدتي بفضل الاستماع، وقدرتك على مجاراتي في أي شيء أتحدث فيه، أعلم أن نصف ما أحكي لم يكن في نطاق اهتمامك، أو ربما لم تستوعبيه بشكل كامل كامرأة مسنة باتت أمور العالم المحيط معقدة بالنسبة لها، لكنكِ كنتِ تستمعين إليّ بإنصات شديد، والأجمل تستمعين بعاطفة حاضرة، فتنقبض معالم وجهك إن كنتُ أحكي ما يزعجني، أو تتهلل فرِحة إن كنت أحكي ما يبهج، مع دعوات حاضرة في كل الأحوال، ربما أعي الآن جيدًا أن قدرًا كبيرًا من الحب يكمن في القدرة على الاستماع للآخر، وأن أثمن ما يمكن تقديمه للمحبوب هو بعض من الوقت لمشاركته قصص حول ما يدور في عالمه وإن بَعُدت تمامًا عن نطاق اهتمام المستمع.. هكذا تلتقي العوالم المختلفة فتصنع عالم جميل يتشاركه أطراف غير متشابهة، وهكذا يكون جوهر الحب.. القدرة على إدارة المساحات غير المشتركة

أحببتك لأنكِ كنتِ حلوة اللسان، فلا تطلبين إلا بعبارات مهذبة وبأدب جم، ولا يتم ما طلبتِ إلا وعبارات الشكر والثناء تحيط بمن أتم طلبك

أفتقدك يا تيتا..افتقد ذلك الإحساس بإن قلبي خاليًا تمامًا مما يؤرقه لأنه فقط قد أفرغ كل شحنته- بشكل غير مباشر- في الحكي معك، كنت أهرب من إخبارك بما يزعجني مباشرةً خشية تأثيره عليكِ من فرط إحساسك، وكنتِ دومًا تهربين من أن تثقلين عليّ بإلحاح يستدرجني للحكي، لم أحك أبدًا ولم تسألين أبدًا، لكن كانت تكفيني نظرتك القلقة بشأن ما أضمر، كنت أفهمها جيدًا، وكانت وحدها تطهرني من كل أوجاعي، وكأنني حكيت وتلقيت كل ما أحتاج من دعم، فتتخفف روحي


أما أخر ما انتهيت إليه في تفنيد أسباب حبي لكِ: "من غير ليه".. لا يرتبط الحب في حقيقته بأسباب يا جدتي، ربما قد يرتبط استمراره بأسباب بعينها ، أما حدوثه فلا يصلح معه سؤال لماذا؟.

سأكتب عنكِ يا حبيبتي من حين لآخر، لأن مثلك لابد ألا يغمره النسيان. سأكتب لأخبر الجميع أنني أحبك، وليعرف الجميع كم كانت جدتي جميلة.