الثلاثاء، 12 ديسمبر 2017

في صباح شتوي بارد

كان صباحًا روتينيًا.. سبقته ليلة شهدت اضطرابات نوم واضطرابات فكر.
لم أكن في مزاج رائق عند الاستيقاظ..أو ربما لم أكن في كامل استعدادي للانخراط مع الآخرين أو مواجهة الأشخاص، بينما كان يوم عمل حافلاً بلقاء الناس.
أندهش أحيانًا من قدرتنا على الاستمرار ومواجهة تفاصيل الحياة اليومية ولقاء الناس..رغم أننا لا نكون مؤهلين تمامًا لذلك..وأظن في الأمر بطولة تستحق الاحتفاء بها.

عند مغادرة المنزل كنت قد تأخرت عن موعدي، ولكني لم أكن أبه لذلك.. ربما لم أكن في مزاج غير رائق فحسب، أظنني كنت في حالة "مش فارقة."
أشرت بيدي لسيارة أجرة..أخبرت السائق عن وجهتي، فأخبرني- بإبتسامة سمجة - أن العداد لا يعمل، لأخبره بدوري عن الأجرة المعتادة التي أدفعها، فماطل لزيادتها، رفضت استقلال التاكسي، ثم شعرت بشيء من الرضا لرفضي الرضوخ لاستغلال أحدهم لمجرد تأخري عن موعدي.
مزعج جدًا أن يستهلك المرء طاقته في  معارك جانبية..مع السائق..مع البائع.. مع موظف كسول فى مصلحة حكومية..إلخ

واصلت السير على قدماي لبعض الوقت رغم تأخيري.. هواء الشتاء الصباحي جميل، ويمكنه تغليف الروح ببعض السكينة، ودفعنا لعقد صلح مؤقت مع قسوة العالم ونسيان الصباح الروتيني والليل المضطرب.

كان علىّ حينها دفع نفسي للبحث عن سيارة أجرة، يتحتم على المرء مقاومة الاستسلام لحالة "مش فارقة".. أظن مقاومة الإنسان لنفسه وتقويمه ذاته وتهذيبها من أشجع ما قد يقوم به المرء مع نفسه، لذا فقد فعلت.

أشرت بيدي لسيارة أجرة أخرى.. كان السائق رجلاً في أواخر الستينات على ما أظن، يبدو ارستقراطي الهيئة رغم بساطته، يعلو رأسه شعر أبيض في معظمه يخالطه سواد بسيط في بعض الأجزاء، وتغطي وجهه نظارة بنية الإطار والعدسات فتحجب عينيه وتضفي عليه بعض الوقار، ويرتدي چيليه صوف كحلي اللون على قميص ذا أكمام طويلة.. مظهره في إجماله مهندم يليق برجل كلاسيكي متقاعد.

بدأ حديثه فور استقلالي السيارة بتنبيهي عن تقلب الطقس وكيف إنه توقيت مثالي للإصابة بالحساسية، ظننت لأول وهلة أن حظي أوقعني مع سائق ثرثار، لكن سرعان ما تغير انطباعي، ليس ثرثارَا وإنما أظنه شخصَا يفتقد الونس، كما أن تنبيهه لي لم يبدو كباب لفتح الحديث، وإنما شعرت بصدق أبوي فيه..هكذا شعرت، وأؤمن بأن المرء إن لم يمتلك دليلاً فيكفيه تصديق حدسه..تصديق ذاك الصوت الداخلي الذي يأتينا من أبعد نقطة في قلوبنا، ثم كيف يمكن المرء تقديم دليل عن شعور يراوده؟

تحدث طوال الطريق.. لكنني لم انزعج إطلاقًا من حديثه، بل وجدتني أنصت إليه باهتمام شديد، كان حديثه بالفعل مسليًا، وكان خفيف الظل، لم يكن يستهدف أن يبدو خفيف الظل، ولذا بدا كذلك بالفعل.

اختار موضوعات حديثه وقاد الحديث بسلاسة..الحكي مهارة وكان يمتلكها، تحدث عن الشوارع قبل زحام العصر الحديث.. وتغيرات المعمار.. واختلاف شكل الناس.. عن فساتين الفتيات الأنيقة، حدثني عن أفلام الأبيض والأسود..وعن أيام زمان إجمالاً، بدا مفتقدًا بشدة إلي شيء ما.. زمن ما..أو ربما شخص ما، ثمة شيء خفي من الشجن كان يغلِّف حديثه، لكنه مع ذلك لم يكن  من نوعية  الأشخاص التي تستجدى عطف الآخرين، وكان ذلك يضفي علي حديثه سحرَا من نوع ما.
 أظن أن أعظم ما نتأثر به هو ما لم يستهدف مسبقًا التأثير فينا.

كان حديثه حماسيًا ..ولا أظنه كان ينتظر مني ردود.. كنت فقط أتدخل بجملة من حين لأخر، أظن أنه بإمكاني أن استمع لحديث مطول حتى وإن لم يقع تمامًا في نطاق اهتمامي، وأن استمتع للغاية بالإنصات لمجرد متابعة حماس المتحدث، تبدو كل الناس أكثر جمالاً وهي متحمسة لشيء ما، وأظن للسبب ذاته، يترك الخذلان الناس منطفئة؛ لأن الخذلان يسحب من المرء حماسة كانت موجودة في يوم ما، ويستبدلها بخواء مرعب.

وصلت إلي وجهتي وأنا في مزاج أفضل، لأعود وأكتب مساءً عن ذلك الرجل الكلاسيكي ذا الچيليه الكحلي.. المفتقد للونس، الذي لن يعلم أن لقاءًا عابرًا بفتاة صادفته في صباح شتوي بارد سيترك أثرًا ما في نفسها، وسيترك في الوقت نفسه احتمالاً في عقلها بأنه ربما مَن لم يكن يستجيب لأحاديثنا إلا بردود مقتضبة لم يكن غير منتبهًا لما نقول، ربما فقط كان متأثرًا لدرجة عدم القدرة على الرد المطول، وأنه ربما نكون قد تركنا أثرًا ما في قلب أحدهم أيضًا دون أن ندري.. ربما.


السبت، 2 ديسمبر 2017

نادي الثلاثين

 كمتسابق يقف في صفوف تجارب أداء منتظرًا أن يأتى دوره ليعتلي المسرح ويقدم فقرته، أقف في صف يسبقني فيه مَن بلغ الثلاثين قبلي، والآن قد حان موعد فقرتي عن الانضمام لنادي الثلاثين.

يبدو إذن أنه أمرًا مختلف أن تكمل ثلاثة عقود بما يجعل من الأمر تجربة تستحق التدوين لأول محطة حياتية يمكن أن تقف عندها صائحًا في الآخرين: "أنا مبقتش صغير..انا عندي تلاتييييين سنة".

 يخالط الأمر شيء من التباهي برقم تدّعي عنده أن لديك رصيد ما مع الحياة؛ لأنه وصولاً لهذا الرقم تكون قد مررت بلا شك على كثير من معاني الحياة، أو بالأحرى قد مرت  بعض معاني الحياة عليك.. كشاحنة ثقيلة تعبر فوق روحك في بعض الأحيان،  ففي الطريق إلى الثلاثين لابد وأن تكون عاصرت معاني عن المكسب والخسارة، الفقد، الانتصار، الانكسار، الحب، الصدمة، الخذلان، المرض، الاعتماد المطلق أو الجزئي على نفسك .. وغيرها من معاني متضادة تشكلك الحياة عبرها، بما يجعل الثلاثين تجربة مختلفة.. أو تجعل الثلاثين منك شخصًا مختلفًا، وفى الحالتين يستحق الأمر التوقف عنده.


لن أدون عن الثلاثين في صورة نصائح أسديها لغيري، في الواقع باتت فكرة النصائح تزعجني؛ لا لأنها تكون في حالات كثيرة مجرد تنظير فارغ يريد به من يسديك النصيحة أن يبدو عارفًا ببواطن الأمور، ومدعيًا قدرته علي العبور سالمًا من دهاليز الحياة الوعرة ومتغنيًا بأمجاده، وإنما لأنني صرت أجد فيها مصادرة علي حق الآخر في التجربة، في أن يختار بنفسه.. ويخوض التجربة.. ويخطئ، وصولاً لأن يصيغ بنفسه قناعاته الأنسب لحياته وظروفها، أظننا لم نعد في حاجة لقوالب نصائح جاهزة نرددها علي بعضنا بعضًا كنصوص جامدة تتلو علينا ما يجب فعله ومالا يجب، وإنما قد يتمثل جُل ما يحتاجه المرء في تنبيه بسيط يحذره إذا ما جانبه الصواب دون مصادرة علي حقه في التجربة وباستيعاب كامل لأن اختلاف ظروفه قد لا تجعل نصائحي ملائمة له، والأهم  احتياجنا للدعم في حالة الخطأ أكثر من النصيحة، أكثر من  صوت مؤنبًا تحت شعار: "مش قلت لك وماسمعتش كلامي؟"،  لذا سأدون فقط عن الثلاثين كتوثيق للتجربة، ربما أعود لما كتبت بعد سنوات طوال - إن كتب لي الله العمر- لأقرأ كيف كنت أرى حياتي وأنا شابة.

في الثلاثين تجد نفسك تبدأ الاحتكاك الحقيقي بالحياة، ولكنها بداية من المنتصف إن جاز التعبير، بداية تسبقها سنوات طوال من محاولات الاستكشاف المرهقة، ربما لا يمكنني أن أصف العشرينات بغير هذا: "سنوات الاستكشاف"، فإن كانت السنوات الاولي للوليد يكتشف فيها الأشياء والأشخاص من حولة للمرة الأولى، فمرحلة العشرينات بأكملها هى السنوات التي يحاول فيها المرء "فهم" الأشياء والأشخاص حوله للمرة الأولي، سنوات استكشاف المفاهيم وصياغتها، ثم هدم مفاهيم خاطئة وصياغة أخرى من جديد بعدما يثبت أن ما استقر في الأذهان طويلاً كحقائق "طِلع بلح"، وهى رحلة مرهقة جدًا للنفس تهتز فيها ثقتك بكثير مما يحيطك من أشياء وناس ومفاهيم.

 ربما لذلك لم أحب العشرينات كثيرًا،  إلى أن أصبْحت أكثر تصالحًا معها في النصف الثاني منها، وبعكس كثيرون لا أودع العشرينات بشجن او بخوف من تسجيل عمري برقم 3 بدلاً من رقم 2، ربما فقط يثير في نفسك التغيير إلى رقم 3 شيئًا من ضرورة الانتباه إلى أنه لن يجدي نفعًا على الدوام التعامل مع الحياة بطريقة "خلي بكرة لبكرة"، وأن التخطيط لشكل حياتك أمرًا يجب الانتباه له، وفيما عدا ذلك لا تفزعني الثلاثينات ولا اترحم علي العشرينات، لا تفزعني الأرقام، ولم أعانِ يومًا من تلك المشكلة الكلاسيكية التى تؤرق السيدات في الإفصاح عن أعمارهن، لا أرى تقدم المرء سنًا أمرًا يستوجب الإنكار، ولا استمد إحساسي بشخصي من رقم يؤرخ ليوم مولدي، لا تفزعني فكرة أنني أكبر إلا في جانب واحد فقط: أن أكبر دون أن تمتليء سنواتي بالحياة، ألا امتليء بالونس ممن يألفهم القلب.. ألا أشبع من أحبابي، خاصة مع مرور السنوات سريعة..سريعة جدًا، لا تفزعني فكرة أني بالفعل أكبر، وإنما أخاف وأفزع فقط من سرعة الوقت، من تلك القفزات الزمنية التي لا يستوعب المرء متى حدثت؟ أين الارتواء من كل تلك الاحداث التي مضت كالومضات؟ لما تمر لحظات الفرح سريعًا، بينما ينطبع الألم في القلب كندبة لا يزول أثرها سريعًا..أو ربما لا يزول أصلاً كجرح التئم ظاهريًا فقط بينما لن ينمحي أثره أبدًا؟ .

تنتهي العشرينات لتقف مرتبكًا بين  فكرة أن تكبر وأن تستنكر متى حدث ذلك؟ 
في الثلاثين تكتشف تغيرات ما طالت شخصك.. لم تعد بحماسك المعهود تجاه كثير من الأشياء، لن تراوغ كثيرًا في شتى شئون الحياة، تقل قدرتك القتالية، أو ربما تقاتل بصورة أكثر ارتكازًا وأقل اندفاعًا؛ لأنك صرت أكثر ادراكًا لعدم جدوى إهدار مزيد من الوقت في معارك لا تنتهي بفوز أحد.. أو في قصص تستهلكك وحسب، أو مع أشخاص لا تشعر معهم بأنهم مساحتك الآمنة، فى الثلاثين تترك ساحة الاشتباك وتفضل الجلوس في المدرجات مستمتعًا بــ "الفُرجة"، ومندهشًا من أنك سمحت لنفسك يومًا - مدفوعًا بحماسك الأهوج- بالانخراط في معارك لا تنتهي إلا بهدر للطاقة فحسب، وإن اخترت النزول إلى الساحة تكون انتقائيا للغاية فيما يستحق الاشتراك فيه.

في الطريق إلى الثلاثين صرت أُبلي حسنًا في محاولات السيطرة على نوبات قلقي، بينما صارت نوبات قلقي متكررة مقارنةً بما كانت عليه وأنا في سن أصغر، أظن القلق يكبر معك أيضًا وتختلف فقط طريقة استجابتك له، فتصبح أقل هلعًا..أو هكذا تبدو، لكن يصاحبك القلق دومًا من سيناريوهات يأخذك ذهنك بها لغد غير مألوف،  صرت ماهرة في عدم التصريح مباشرة بما يثير قلقي، وماهرة في التعامل مع تفاصيل الحياة اليومية وكأن لا شيء يزعجني من الأساس، بينما صار القلق أكثر مهارة في تغيير استراتيجيته معي، أصبح يأتيني مع تجاهلي له في صورة نوبات من اضطرابات النوم.. واضطرابات الطعام.. واضطرابات صحية يهاجم بها جسدي، وأظن الأمر نفسه بات ينطبق مع نوبات الاكتئاب التى اختلف شكلها مع التقدم سنًا، فلم يعد الاكتئاب يدفعك للانزواء في غرفتك وحيدًا، وإنما صار المرء رزينًا حتى فى اكتئابه.. يكتئب وهو يواصل يومه..وعمله..ويقابل الناس.. ويضحك على فيس بوك، ربما تصالحنا مع الجانب القاتم في الحياة كما تصالح راسل كرو مع هواجسه في فيلم "Beautiful mind".

صرت أيضًا أكثر عملية.. عملية في اختيار ملابسي..فى اختيار الأماكن.. صار أهم معيار  لدي في المفاضلة دومًا هو " الراحة".. وتوفير المجهود المهدر في تفاصيل لا تُنهك إلا صاحبها.. وأظننى استخلصت أيضًا أن المعيار ذاته قد ينطبق على الأشخاص المفضلين..هؤلاء الذىن يمثلوا للمرء واحة هدوء وراحة، ولا أظن أن فكرة ارتياحك لأحدهم يسيرة أو قابلة للتكرار بسهولة.


‌أما أبرز تغيير لمسته في نفسي في السنوات الأخيرة من العشرينات، كان ما وصفته يومًا لصديق بــ  "القسوة"، كنت منزعجة حينها من قدرتي المفاجئة على ألا أجيب نداءات كل من يحتاجني، ألا أبذل مجهودًا للحفاظ علي مَن تبهت علاقتي معه كما كنت في السابق، أن أصبح انتقائية للغاية فيمن يستحق مجهودي معه، وأن اتعلم أن أقول "لا" بلا أدنى إحساس بتأنيب الضمير، وإنما إيمانًا بأن الرفض أحد حقوقي وأنني لست مضطرة على الدوام لأن أفعل ما يُطلب مني، اختلف معي صديقي حينها وأخبرني أنها ليست قسوة وإنما تغيير مطلوب في المرء حفاظًا على نفسه من الاستنزاف، ووافقته الرأي صديقة أخرى تطرقت معها لمناقشة الأمر ذاته بعد فترة، فاطمئن قلبي لأنني ربما لم أعد أكثر قسوة..وإنما قد أكون صرت أكثر إدراكًا.. وصرت أكثر حبًا لنفسي، ذلك الحب المحمود لنفسك، الذي يجعلك مؤمنًا بأن تنتبه جيدًا لحق نفسك عليك، وأن حب الآخرين لا يعني أبدًا أن تهلك نفسك وتستهلكها في سبيل من يحولك ومجهوداتك إلى شيء مُسلَّم به، وأظنه صار التغيير المحبب إلي قلبي بين جملة تغييرات طالتني، وإن كنت لم آلفه كليًا إلى الآن.

سلم
 على بُعد أيام من بلوغ الثلاثين أقف مودعة العشرينات بلا ندم على ما أخطأت فيه..بلا ضغينة تجاه أي شخص  خذلني..أو حزن على أى فرصة فاتتني، بقدرة كبيرة على التجاوز.. وبتصالح شديد مع الشخص الذي كنته بالأمس، ومستقبلة الثلاثينات لا بأذرع مفتوحة للغاية لأنني تعلمت أن الحماس الشديد حماقة، وإنما بقلب مفتوح يُمنىّ نفسه بأن يسع نفسه دومًا بكل تناقضاتها..وأخطائها.. وتجاربها.


الخميس، 2 نوفمبر 2017

الحب فى زمن الكوليرا *

(1)

جلست مع بعض الأصدقاء نتناول الغداء في ذلك المطعم مساءً، وعلى بُعد أمتار قليلة طاولة تعلوها لافتة "محجوز"، وحولها بعض الأشخاص يرتبون لمناسبة ما، مر وقت قليل ثم اتضح الأمر، المناسبة عرض زواج رتَّبه أحدهم، ومعه بعض الأصدقاء لمساعدته، مر وقت إضافي ثم دخلت إلى المطعم فتاة مُعصبًّة العينين ترتدي فستانًا مزركشًا ويقودها إلى الطريق بعض الأصدقاء، بينما لافتة تضم بعض صورها هي والشاب (العريس) تُزين أحد حوائط المطعم، نزعت عصابة العينين.. رأت لافتة الصور.. رأته.. تقدم هو بالخاتم بعد أن جلس على إحدى ركبتيه، تضع هي يدها على فمها من فرط الدهشة، بينما الأصدقاء المحيطون يهللون ويصفقون ويطلقون صرخات حماسية.


كنت أنا وصديقاتى نسترق النظر من حين لآخر حفاظًا على خصوصيتهم، لكن الحدث فرض نفسه على المكان وجعل من المستحيل عدم متابعته، تسلل إليّ وقتها شعور بأن ثمة شيء اصطناعي فى تلك اللحظة.. شيء متكلف وغير حقيقي، كما لو أنه مشهد محفوظ مسبقًا يؤدي فيه كل فرد دوره بشكل آلي، فلا تشعر بعفويته أو صدقه، لكنني تجاهلت إحساسي وواصلت تناول الغداء، ولم يطمئن قلبي إلا بعد أن أبدت صديقاتي نفس الملاحظة، ضحكنا حينها متسائلين: هل كبرنا إلى حد أن تلك المواقف الرومانسية الكفيلة بإثارة إعجاب أي فتاة - بحكم أننا جميعًا كائنات عاطفية في النهاية- لم تعد تدهشنا، أم إن أصلاً مواقفًا مشابهة ليست رومانسية وإنما "صُوِّر" لنا كونها كذلك؟.



(2)
منذ عدة سنوات، نشرت صديقتي منشورًا لشخص ما على فيس بوك جاء فيه: "اللهم أرزقنا علاقة ما نضطرش ننشر تفاصيلها على ربوع السوشيال ميديا؛ علشان نثبت للناس قد إيه إحنا مبسوطين."


دار حينها بيني وبين صديقتي حوار شخصي عن مضمون المنشور، أخبرتني فيه أن عالم التواصل الاجتماعي ضاغط بشأن العلاقات، يُشعرك دومًابشكل غير مباشرأن ثمة شيء ما ناقص في علاقتك؛ لأن شريك حياتك لم يُعِّد لك مفاجأة كبيرة كتلك التي أُعِدت لفلانة ونشرتها على حسابها، أو لأن علاقتك خالية من المدح والتغزل فيك على الملأ أمام جمهور السوشيال ميديا كما يحدث في حالة علانة، أردَفَت صديقتي قائلة: "أمور كتلك تتسلل إلى قلبك لا شعوريًا فتشعرين أن علاقتك ينقصها شيء ما، بعد أن يُخيََل إليك أن كل العلاقات كما تبدو في الصور وفي منشورات فيس بوك وفى حكايات المحيطين حتى، في حين إن علاقتك ليست مثلهم، ويتطلب منك الأمر وقتًا - تحت وطأة الضغط السائد-لإدراك أن الحب ليس كما يصوروه".




(3)
 يقول دكتور أحمد خالد توفيق في كتابه قصاصات قابلة للحرق: "ليتنا أنا وأنتِ جئنا العالم قبل اختراع التليفزيون والسينما؛ لنعرف هل هذا حب حقًا أم أننا نتقمص ما نراه؟"


 أشعر دومًا أننا أبناء جيل مظلوم للغاية، ظاهريًا يبدو أننا نمتلك كل شيء، جيل التكنولوجيا والانفتاح على العالم، وربما هي مأساتنا في الوقت ذاته؛ لأننا نعيش مع مُدخلات ضخمة من المعلومات يصعب على أي عقل بشري استيعابها وكذلك يصعب تجاهلها، تعرف جيدًا كل الفرص التي تفوتك، تعيش في عصر سريع الايقاع.. استهلاكي..تغلب عليه المادة و"الشو" الاجتماعي، عصر "المنظرة" والإدعاء، حتى في الحب، عصر يتطلب منك دومًا أن تكون شخصًا مبهرًا، فلا مكان للعاديين، عصر معقد للغاية، لا ببساطة أزمنة مرت عاصرناها في حكايات مَن هم أكبر سنًا، وأظنهم كانوا أكثر رضاءً مع بساطة الاختيارات المتاحة، والمعرفة المحدودة.


 يمتد التعقيد ويلقي بظلاله على كل شيء.. في كل المجالات.. على كل المفاهيم والقيم بما فيها الحب، فصرنا أمام قوالب جامدة للحب مخلوطة بصبغة المادة: الحب هو أن يملأ عالمي بالمفاجآت.. أن يجعل من حولي يهللون ويصرخون من فرط الدهشة من تصرفاته الحالمة.. الحب هو أن يتغزل فيَ ليل نهار.. هو تلك البالونات التي أجدها على مكتبي في كل صباح.. هو أن يهديني كل ما يجول في خاطري ويعرفه دون أن أطلبه..هو ملاحقتى بالورود والشيكولاتة أينما ذهبت..هو السعادة الدائمة.. ألا نتشاجر أبدًا.. ألا أبكي بسببه أبدًا، صياغات تبدو مثالية لفترة المراهقة وصرنا نختزل فيها مفهوم عظيم يشمل معاني الحياة كافة، وكأننا فى زمن تفشى فيه وباء ما فأصاب المفهوم بالتشوه.




 ربما لا أمتلك صياغة مُثلي للحب، ولا أظن أن بإمكان أحد أن يفعل، لكنه قطعًا ليس تلك المشاعر السطحية المبتذلة غير المسئولة، ولا القوالب الاستهلاكية المراهقة التي تحاصرنا في كل مكان، ولا تلك الصور الذهنية غير الحقيقة التي تُصدًر لنا من قصص المحيطين..أو من السينما والأفلام والسوشيال ميديا، الحب مسألة شخصية بحتة تتعلق باثنين فقط دون أي مؤثرات خارجية يمكن الاستناد إليها للحكم على ماهية العلاقة أو توجيهها بقوالب نصائح جاهزة؛ لأنها تجربة متفردة..حالة خاصة بكل اثنين ولا يجوز تعميمها على كل الثنائيات.


كما إنه من غير المنصف تصدير الحب على أنه سعادة على الدوام؛ إذ أظن الوجع قوام أساسي للحب ويقترن به دومًا، لأنك تجد في أصغر تصرفات الطرف الآخر ما يمس قلبك مباشرةً، فتصيبك بالحزن تصرفات عادية جدًا بدرت منه، تستقبلها بشكل مُضخَّم لا يتناسب مع حقيقتها، وكذلك الحال مع كل تصرف صغير جميل، فيصبح الآخر محور كل فرح مهما تفه، ومحور كل وجع مهما سفه، على شاكلة ما تغنت به ذكرى:"أنت العذاب.. وأنت الهنا"، وأظنني لم أجد لوصف الحب أفضل مما سمعته من الإعلامية سناء البيسي على الراديو ذات يوم بما معناه: "الحب هو أعملك كوباية شاي؟/ هعمل أنا ونشربها فى البلكونه وتحكيلي عن يومك/ تسلم ايدك/ تسلم وتعيش".



أظن الحب أبسط مما نتصور.. لكنه معقد للغاية في الوقت نفسه، ولا علاج لذلك.



العنوان مُقتبس من رواية للكاتب  غابرييل غارسيا ماركيز، تحمل العنوان ذاته.



الأحد، 27 أغسطس 2017

بلوتو الدور الرابع 21 - فى رحاب الأنانية

 عزيزى على،
   صديقى الفضائى المتفرد بمكانة فى القلب لا ينافسه فيها أحد، كيف حالك يا صديقى؟

ربما لأصدقك القول، أنت قطعًا تسمو عن أى منافسة مع الغير لأننى لا أعرف فضائيين غيرك، لكن أيضًا يا صديقى فأنت تسمو عن المنافسة لأنك أنت فحسب، ولا يمكن لأحد أن يحل محل غيره مهما اجتهد فى ذلك، يخيل إليّ أحيانًا أن الأشخاص فى حياتنا كبصمات أصابعنا، من بعيد ترى أصابعًا متشابهة، وإن دققت النظر وجدت فى كل أصبع خطوطًا مميزة تخص كل أصبع.. تُشّكله، ويتفرد بها عما عداه من أصابع، لا أحد يشبه أحد يا صديقى وإن بدا كل الناس من الخارج سواء، لكلِ منا خطوط شكّلته وجعلت منه شخص متفرد، خطوط عريضة من التجارب تصيغه وتجعل من الصعب أن تراه نسخة مكررة فى شخص آخر، فحتى وإن تشابهت تجاربنا أحيانًا، تختلف استجابتنا ورؤانا وفق تكويننا وخلفياتنا وبيئاتنا، لتجد أننا فى النهاية حتى وإن تََشاركنا فى نقاط تشابه، نختلف فى نقاط  تجعل كل منا حالة خاصة قائمة بذاتها، وربما بعيدًا عن أى فلسفة، لا يمكن استبدال شخص بأخر بلا سبب محدد، وقد يكون هذا أحد أسرار الكون، تمامًا كسر أن تختص أحدهم بمحبة دون أن تعى سببًا لذلك، ولذا فلتطمئن إن غبت عنك يا صديقى أوانقطعت خطاباتى لبعض الوقت، فلا يمكن لأحد أن يحل محلك فى قلبى، كل ما فى الأمر أن الحياة هنا على كوكب الأرض فوضوية للغاية، وإيقاع الحياة سريع لدرجة مربكة، ومتشابك جدًا أيضًا، وعصى على الفهم، لذا تأخذنى الحياة رغمًا عنى، لكنك لا تتوه أبدًا منى، أعرف أنه لا أقسى من أن نغيب عن أحبابنا  ليقيننا بأن قلوبهم تتسع لأعذارنا، وكأننا ضمننا صك محبة أبدى فى قلوبهم، أقع فى الخطأ رغمًا عنى، لكن قد يشفع لى أننى أجدد تنبيههم بمكانتهم فى قلبى من وقت لأخر، أشدد على عمق محبتى، عسى أن يغفر لى ذلك، ويطمئنهم وقت الغياب.


 شغلتنى عنك فوضوية الحياة يا صديقى، وهى نفسها ما أعادنى اليوم إليك بهذا الخطاب، لا لأشتكى فهو أمر  ربما لا أجيده، لكنها أعادتنى لأخبرك ما تعلمته من ضغوط حياتية جابهتها مؤخرًا.. تعلمت الأنانية يا صديقى، ولا أعنى هنا ألا تفكر سوى فى نفسك دون الآخرين، لكن دعنى أستحدث معك مفهومًا جديدًا للأنانية نحتاجه، وهو أن تفكر فى نفسك كما تفكر فى الأخرين، ألا تبخس نفسك حقها كما تحرص على تسديد حقوق الآخرين، أن تتذكر أن لنفسك حق فتنتبه لنفسك ولحقها عليك.

قرأت يومًا يا صديقى مقالاً لأم يعتصر الشجن كلماتها، تحكى فيه عن حالة وحدة مفزعة صارعتها بعد أن تزوج أبنائها وانشغل كلٌ منهم بحياته، يمتد الوقت أمامها طويلاً.. مفزعًا، فكرت كيف يمكن أن تتغلب على وحدتها مع طول الوقت، إذن فهو وقت الهوايات المحببة للنفس، ولكن أين ذهبت هواياتها، ماذا كانت تهوى من الأساس؟ نسيت ما تهواه فى رحلة تربية أبنائها، وبالمناسبة هم ليسوا أبناء عاقة، لكنها سنة الحياة، ربما لم تكن الأم تعلم أن مهما امتد بها العمر وهى محاطة بأبنائها، ستأتى لحظة ذوبانهم مع الحياة، سيمضى كل منهم فى طريق بحثًا عن ذاته، فكان ينبغى عليها ألا تنسى ذاتها، كان عليها أن تنتبه بأن تفنى نفسها كما تشاء فى حب أولادها، شرط ألا تذوب حياتها تمامًا فى حياتهم.

مس المقال يومها شيئًا ما فى قلبى يا صديقى، استخلصت منه أنه ينبغى على المرء أن يعتنى جيدًا بنفسه ولا ينساها؛ لأن أكثر شخص سيعيش معك هو أنت، فكيف ستستوى الحياة مع ذلك الشخص إن أهملته؟ 
استبدِل الأبناء من القصة السابقة بما شئت.. عمل يستنزف كل طاقتك.. علاقات اجتماعية بأقارب أو أصدقاء تستهلكك وتسرقك من نفسك، علاقات يعتاد أصحابها أنك موجود على الدوام لترتيب شئون حياتهم بغض النظر عما تحتاجه أنت من ترتيب لفوضى داخلك، عيون باتت لا تراك..لاترى سوى نفسها وكأن أصحابها محور الكون، وعلى الكون أن ينتفض وقت احتياجهم للمساعدة، أنت فى هذه الحالات لا تساند غيرك يا صديقى، أنت تستهلك نفسك.

وصدقنى فثمة قيود كثيرة تكبل بها نفسك من أجل لا شىء فى النهاية.. فعليك أن تتحرر شيئًا فشىء من هذه القيود، فلا بأس بعدم  الرد على مكالمة هاتف.. لا بأس بالاعتذار عن مقابلة ما.. لا بأس برد متأخر على رسالة..لا بأس بأن تؤجل بعض المهام فى سبيل اقتطاع وقتًا لنفسك؛ لأنك أيضًا مهم.. لا بأس ..لأنه لا بأس بالانسياق لرغباتك أنت وتأخير رغبات الغير، هذه ليست أنانية يا صديقى..هذا اعتناء بالذات، فإن كان الكون على رحابته لا يتسع لنا يا صديقى وقت أن نحتاج المساعدة، أو إن كان الغير يفترض أننا أصلاً لا نحتاج للمساعدة لأنهم تعودوا أننا موجودون لتقديمها لهم فحسب، إذن فلتتسع لنا الأنانية وتحتوينا؛ لأننا صرنا مستباحين.

دمت بعيدًا عن الاستهلاك يا صديقى، دمت معتنيًا بذاتك، ومتحررًا من قيود لم يفرضها عليك سوى إحساس ينبع من داخلك بأنه واجب عليك..فى حين أنه لم يكن أبدًا كذلك.
                                
                                                                      من كوكب الأرض.. مع تحياتى،،


السبت، 22 يوليو 2017

خيبة وقلة حبايب

(1)

يقف أخى الأصغر حائرًا ويسألنى أى " تى - شيرت" سيكون أنسب لذلك المشوار؟

 أعدد له مزايا وعيوب كل منهما وفقًا للمناسبة، ثم أنصرف دون أن أحسم له الأمر عن عمد، ينخلع قلبى خشية أنه قد يتسلل إلى عقله شعور بأننى لا أهتم، لكننى أردد على نفسى أننى قد أعطيته مفاتيح الإجابة، ولم أتركه يجابه حيرته منفردًا، أعيد طمأنة نفسى بأننى أهتم بما يفوق خياله، أهتم لدرجة أنه لا يعنينى أى تى شيرت سيرتديه، وإنما يعنينى أن يستطيع اختيار الأنسب له بسهولة حينما لا يجدنى ليسألنى.



(2) 

كان ذلك منذ بضع سنوات، مساءً فى مكتب رئيسى فى عملى السابق، كنا نجلس معه أنا وزملائى لمناقشة بعض أمور العمل، إلى أن قاطعنا اتصال هاتفى ورده من ابنه الأصغر، كان رئيسى حينها فى مزاج رائق، فما كان منه إلا أن وضع ابنه على ال "سبيكر"، لنستمع إلى " لماضة"  ابنه الذى كان يريد استبدال ساعة اختارها بنفسه بلعبة، لينهى والده النقاش بقوله" "لا يمكن استبدال الساعة لأنه كان قرارك واختيارك.. وما عليك إلا انتظار الموعد المقرر لك الشهر القادم- حسب تقاليد أسرتهم-  لتبتاع ما أردت".



 (3)

طالما تستخدم جدتى ذات العبارة للتعقيب على خطئها فى تقدير بعض المواقف: " خيبة وقلة حبايب"، اعتدت سماع الجملة منها كثيرًا مقرونة بشفافية بالغة، وبقدر كبير من التصالح مع النفس  فى اعترافها بالخطأ، لم أكن أفهم ما تعنيه الجملة إلى أن بادرتها يومًا بالسؤال، ضحكت بشىء من الخجل، ثم أخبرتني أن اتخاذ أى قرار خاطىء يرجع جزء منه إلى عدم التقدير السليم للموقف، كالتسرع.. الاندفاع.. عدم الحكمة، إلخ وهو ما لا يمكن وصفه إلا بالــ" خيبة " ، فى حين يرجع الجزء الآخر إلى عدم وجود أشخاص مخلصة إلى جانب المرء ممن يمكنهم تقديم المشورة والدعم له لتصحيح مساره إن أخطأ الطريق، أو لتوجيهه إلى ما ينبغى عليه فعله، وهو ما عبرت عنه عبارة " قلة حبايب".



أظن أن ما يهم ليس فقط  أن تكون لدى  المرء القدرة على اتخاذ قرار بأن يتجاوز مخاوفه ويكون مغامرًا، أو أن يكون مؤمنًا بأنه لا مكان فى هذا العالم لمن يأمن السير فقط  بمحاذاة الحياة دون الذوبان فى طرقاتها.. لا يهم فقط أن يتعلم المرء كيفية اتخاذ قرار في ضوء معرفة أنه لا حلول ممتازة في أغلب الأحيان، وأن مقابل كل شىء يناله عادًة فثمة ثمن يدفعه نظير  الحصول على هذا الشىء، وهو ما يتطلب أن تستند قرارتنا إلى حسن التفنيد والتقييم من كل جانب، ثم التسليم بوجوب بعض التضحيات.. ليس هذا فحسب ما يهم، المهم فى النهاية أن "يتدرب" المرء يوميًا على اتخاذ القرارات حتى فى الشئون الحياتية البسيطة، كاختيار أى "تى -شيرت" سيرتديه، وأن يكون ناضجًا كفاية لتحّمُل تَبعات قراره، حتى وإن كانت فى أمر ساذج كمعرفة أنه قد لا يتمكن من استبدال ساعة اشتراها، وأن يتقبل سوء اختياره بصدر رحب ونفس تتقبل الخطأ ببساطة جدتى وهى تقول: " أهو اللى حصل بقى.. دى بس خيبة وقلة حبايب".

الاثنين، 26 يونيو 2017

بالنقائص نكتمل

"Friends can break your heart too"

صادفت منذ فترة تلك الجملة في أثناء تصفحي للإنترنت، تأملت لوهلة ما بها من تأكيد على أن الأصدقاء أيضًا بإمكانهم كسر قلوبنا، مررت على الجملة دون التفات كامل كمروري علي عشرات الجمل القصيرة التي تبدو براقة للكتابة كــ ( ستاتس) علي فيس بوك، ولكن لسبب ما ظلت عالقة في وجداني.







طالما كنت أعقِد في ذهني مقارنات بشأن تشابه فكرة الصداقة مع العلاقات العاطفية، حتي وإن بدت المقارنة غير صحيحة لاختلاف طبيعة العلاقتين، إلا أنني كنت أشعر دومًا بأن هناك نقطة تماس بينهما، وربما لذلك استوقفتنى العبارة السابقة، ما إذن جدوى كلمة "أيضًا" التى تتضمنها العبارة سوى التأكيد على أن نقطة التماس تلك بين الصداقات والعلاقات العاطفية موجودة؟



ربما يأتى التماس من أن ما تفهمه كخلاصة حياتية من تجربتك الإنسانية مع صديق حقيقي مقرب، قد يفيدك بعض الشئ في تجربتك الإنسانية مع الآخر، والعكس بالعكس؛ ذلك أن الاقتراب الإنساني من صديق حميم قد يتشابه في بعض ملامحه من تجربة الاقتراب من الآخر، تمران معا بمواقف حياتية حقيقية .. نقلات حياتية من تجارب مرض، وفاة، سفر، عثرات مادية، نوبات اكتئاب، لحظات ترقب في انتظار حدث كبير، استعدادات لأحداث سعيدة، تسعدا معًا من إنجاز حققه أحدكما، ينفطر قلبيكما معًا لحزن ما طال أحدكما، إلي أخر ذلك من المواقف التي تجسد المعني الحقيقي للحياة، تعاصر في تجارب الصداقة الحقيقية كل ذلك، تري صديقك في لحظات فرحه وانتصاره وانكساره، تتشكل العلاقة حول هذا المحور: قبول غير مشروط لباكيدچ واحدة بما تحويه من مزايا وعيوب، تلمس العيوب وتقر بوجودها، ثم " تختار" بكامل وعيك الاستمرار دون أن يغير ذلك فيك شيئًا تجاه الآخر اللهم باستثناء بعض نوبات الانزعاج من هذه العيوب، التى يتجدد عقب انقضاءها عهدك الداخلى بالاستمرار، على طريقة ما تغنى به وائل جسار: " حبيته لما أنا شفت عيوبه، ومافيش أجمل من كدة"، وذلك حينما يقرر الصديق ألا يركض بعيدًا عن العيوب التى لمسها فى صديقه من باب "الاستسهال" أو البحث عن علاقة خالية من " وجع الدماغ"؛ لأنه فى الواقع لا علاقة بلا وجع فى المجمل، ويبقى المهم فى النهاية ما قيل يومًا عن أن "تكون بصحبة شخص تشعر معه بأقل قدر ممكن من الألم"، وأن تكونا سويًا بالنضج الكافى لاستيعاب أنه لا يمكن تجزئة علاقاتنا الإنسانية لاختيار ما يناسبنا فقط، لأننا أيضًا يشوبنا ما يزعج الغير، وأن نقص بعض الجوانب فى العلاقات ربما هو- وبعكس المنطق- من أسرار استمرارها، ذلك السر المتعلق بالتغافل، بتجاوزك وتجاوز الآخرين عن بعض النقائص إيمانًا بأن شتى العلاقات إنما تستمر بالفضل..لا بالعدل، بفضل التجاوز عن الهفوات، على نهج سيد مكاوى: "خلى شوية عليا.. وشوية عليك".


  يُقال  "من ابتغي صديقا بلا عيب عاش وحيدًا"، وأظن المعني ذاته ينطبق إذا استبدلنا كلمة صديق بحبيب


أفكر كثيرًا في سبب استمرار صداقتي بصديقتي عمري، رغم أننا فعليًا ثلاث شخصيات مختلفة، تعلمت من علاقتنا أن الاختلاف غير مخيف طالما هناك أرضية مشتركة بإمكانها احتواء الخلافات والاختلافات، طالما أن هناك ثوابت تجمع أطراف العلاقة فتصبح الاختلافات غير مفزعة، وربما صداقتنا تلك هي التى علمتني أن أقرب الأشخاص ليسوا هم من يطابقوننا تمام التطابق، ولكن هم من يكملوننا، يشد كل منا الآخر في اتجاه عالمه المختلف، فتدب الحياة في حياتك بفضل تلك الاختلافات، لتطرق أبواب عوالم أخرى لم تكن لتجرؤ على الاقتراب منها مالم يسحبك من يدك شخص ما مختلف عنك ليدفعك دفعًا نحوها.

 

أما الخلافات فهي أقوي أعمدة العلاقات بعكس ما قد يصوره المنطق بأن الخلافات تهدد الاستمرار، تعلمت من صداقاتي بالمقربين أن نشوب خلاف ليس الأزمة، وإنما الأزمة قد تنشأ من كيفية إداراة الخلاف، ومن طريقة استجابتنا له، لتتأكد لدي صحة ما يثار عن أنه مع كل خلاف يمكن وضع قاعدة جديدة للعلاقة، لتصبح الخلافات أعمدة تُبني عليها العلاقات، إذا ما كانت الاستجابة لها سوية، ونابعة من رغبة حقيقية في الوصول إلى حل، لا من رغبة طرف في إثبات أنه فقط علي صواب، وأن الطرف الآخر مخطئ بلا شك، تأكدت من تلك القاعدة بعد خلاف هو الأكبر بيني وبين صديقة مقربة، فزعت في البداية من أن يتحول كل ذلك التفهم بيننا لكل ذلك الشد والثورة من كلينا، لكن من يومها اطمأن قلبى لأن علاقتنا قوية، لأننا كنا بطريقة ما في وسط خلافنا نقسو جدا ثم نلين جدا، كانت كل واحدة فينا حينها كمن تصفع ابنها ثم تضمه إلي صدرها، فتأكدت أننا " مانهونش علي بعض"، تذكرت حينها حوار دار بيننا قبلها بسنوات حينما تخيلنا ماذا سيحدث لو اختلفنا، كنا من فرط تفاهمنا نخشي من لحظة الخلاف، ثم جاءت الإجابة بعدها بسنوات: لو اختلفنا سنكون كمن تصفع ابنها ثم تضمه إلي صدرها، وهو أيضا مفهوم قد يؤسس لقاعدة مهمة في العلاقات كافة: ألا يهون عليك الآخر.


بشكل ما تتلاقى علاقات الصداقة مع العلاقات العاطفية فى بعض النقاط، فيما لا يمكن وصفه بما هو أدق مما قرأته يوما عن توصيف العلاقة بين متحابين بأنهما "اثنان تآلفا على نقص"، وهو الوصف ذاته الذي يصلح  أيضًا للتعبير عن علاقة صداقة حقيقية يتآلف أطرافها على النقائص فيكتملوا برغم وجودها.

الأربعاء، 24 مايو 2017

بوسطة 6- جدى الحبيب

جدى الحبيب
 
ربما هو درب من الجنون أن أكتب لك وأنت لست هنا فى هذه الدنيا، لكنك فيها بشكل ما، لا أعنى بذكراك فى القلب، ولكنك هنا بأثرك الممتد فينا، بأثر استشعره بقوة بعد ثلاثة عشر عامًا من رحيلك، وأظن أنه لاداعى لإضفاء المنطق على كل شىء نقوم به  حتى يتحتم علىّ تبرير سبب كتابتى لك بعد رحيلك ، فقط شعرت بالحاجة لأن أكتب لك..أو عنك بالأحري، ففعلتها . 

أنت فقط لم تفارق ذهنى طوال الأيام الماضية، في كل عام قبل بدء شهر رمضان، تحتل رأسى بقوة، أتذكر جوال البلح الكبير الذى كنت تصر على شراءه سنويًا  لتقسيمه بين أبناءك الثمانية، كبروا وتزوجوا وأنجبوا، وصار كل منهم فى بيت مستقل، لكن نصيبه من البلح ظل طقسك المعتاد، كنت طفلة تراقب فى ابتهاج ذلك الجوال الضخم فتصيبها سعادة بالغة، كنت أراقبك يا جدى وأنت تحنى ظهرك وتتابع تحركات مؤشر الميزان الأحمر الكبير لتزن أكياس البلح، ثم تغلق الأكياس بإحكام.. انهماكك التام فى إعداد الأكياس، وانهماكى التام فى مراقبتك،  ربما لم أكن أفهم  حينها ما تقوم به، لكن كنت أدرك جيدًا أنها طقوس تسعدنى.

حاولت جدتى استكمال المسيرة بعد رحيلك، ولكن بشكل آخر، هل تعرف أن جدتى فى كل عيد تحضر لنا وعاء كبير مزركش من الحلوي والتسالى والشيكولاتة وتضعه فى منتصف منضدة السفرة؟ تمامًا كما كنت تفعل أنت، أذكر أنها فى أول عيد بعد رحيلك أخبرتنى مبتسمة  أنها ستواصل طقوسك فى العيد لنشعر أن شيئًا لم يختلف بعدك، كانت تنظر لطبق الحلوى مبتسمة وهى تقول: " زى ما فتوح كان بيعمل".

أى حب هو هذا يا جدى؟ أى حب هو ذاك الذى يدفع جدتى لتوصينا بعدم نسيان شراء حلوى العيد لتجهز لنا طبق العيد.. طبقك بالأحرى؟ لم تعد جدتى تقوى على الخروج من المنزل منذ سنوات طويلة مضت وأنت تعلم ذلك، ولكنها مع ذلك تشدد علينا جميعًا عدم نسيان شراء مستلزمات طبق الحلوى، غريبة الفكرة أليس كذلك؟ أن تفاجئنا جدتى بما أوصتنا نحن بشراءه؟
أشعر أحيانًا أنها تشتري حلوى العيد من أجلك لا من أجلنا، لكننى أطمئن دومًا لوجود ذلك الطبق على سفرتها فى صباح كل عيد.

هل تعلم أننى تعلمت الأمر منك؟ أى الحفاظ على طقوس ما فى كل مناسبة لتستقر فى أذهان كل مَن فى المنزل، تغمرنى سعادة بالغة فى كل مرة يخبرنى أهل البيت بأنهم يشعروا بالمناسبات المختلفة بفضل طقوسى، لكنه فضلك أنت يا جدى، طقوسك أنت.. عاداتك أنت التى انتقلت لى لا شعوريًا، ربما هكذا تستمر البيوت برغم منغصات الحياة، بذلك الدفء النابع من الذكريات .. من الطقوس..من المراسم المميزة لكل بيت..هذا ما يجعل جدران البيت تصمد لوقت أطول

أنا فقط افتقدك يا جدى.. افتقد أن أعود طفلة مرة أخرى تراقبك وأنت تتابع تحركات  مؤشر الميزان الأحمر الكبير لتزن أكياس البلح، وأظننى الآن فهمت ما  كنت تقوم به، كنت توزع الدفء  لا البلح على أبناءك الثمانية.

رحمك الله يا جدى



الخميس، 27 أبريل 2017

بلوتو الدور الرابع 20- سنحاربهم بالطبخ

عزيزي علي..ابن بلوتو البار، القريب جدًا.. البعيد جدًا

كيف حالك يا صديقى؟


 أكتب لك الآن وأنا أشكر الظروف التي حالت دون كتابة هذا الخطاب من يومين، من يومين فقط يا صديقى لو كنت كتبت لخرج ما أكتب قاتمًا كئيبًا، كنت في حالة من الملل الشديد الذي يصيبك بإرهاق شديد،  لا مجازًا وإنما أعنى أن يتحول الأمر بالفعل إلى آلام تطارد جسدك.. آلام فى معدتى.. اضطراب فى نومى، حالة خمول تام، والعجيب أو السخيف أنها حالة من الملل لا لأنك لا تجد ما تفعل، بل  ذلك الملل  الذى يتسلل إليك فى قمة الانشغال بما تفعل، ملل من كل شىء، وأى شىء، هل تظن الملل يا صديقى هو اللفظ المناسب هنا؟ لا أظن.. ولا أمتلك توصيفًا مناسبًا.


 هل تعرف تلك الحالة التى تبدو معها كل الأشياء ثقيلة على النفس، حينما لا تقوي علي فعل أي شئ، وإن اضطررت فأنت تدفع نفسك دفعًا لأداء المهام الموكلة إليك سواء المجبر عليها أو حتى المحببة إليك.. يتساوى كل شىء..وكله ثقيل الوَقع على نفسك، تؤدى كل شىء ولسان حالك يردد متي سينتهي هذا المشوار؟ متي سينتهي هذا الحديث؟، متى سأعود للمنزل؟،  ثم يقودك ذلك للسؤال الأعم والأشمل: متي سينتهي هذا العبث عمومًا علي كل الأصعدة؟ فتحت وقتها جهاز اللاب توب فى محاولة منى للكتابة لانتشال نفسى من تلك الحالة، سطرت كلمتين : "عزيزي علي" ثم انتهي الأمر عند هذا الحد، ربما خفت يا صديقي، ليس منك، فأنت أكثر مَن آمنه، ولكن خفت من نفسي، خفت أن أكتب.. خفت أن أقرأ ما كتبت، خفت أن أطلق العنان لأفكاري في خطابي، وأنا أعلم أن أفكاري لم تكن سوية حينها، لا يعني الأمر أنها غير حقيقية، ربما لكونها حقيقية جدًا خفت أن أكتب، كانت أفكارى حينها بمثابة مراجعات فكرية عن عدة أشياء وأشخاص، ففضلت ألا أكتب.. فضلت الانتظار لتنقضي فقط تلك الفترة، وتتتراجع هذه الأفكار إلى قاع وجدانى مرة أخرى، علي طريقة أحمد منيب:  (دة كل شيء له يوم..زي السحاب يمشى)، أعتقد يا صديقى أن ليست كل المشكلات تحتاج إلى وقفة من جانبنا لحلها، بقدر ما تحتاج أحيانًا إلى تجاهلها..فقط تجاهلها.


قضيت تلك الأيام في المطبخ بعد أن فشلت محاولات الكتابة والقراءة ومشاهدة التلفاز والخروج والحديث، هل أخبرتك  من قبل أنني أطبخ حينما أكون محبطة؟ وفي أحيان قليلة حينما أكون سعيدة، كذلك اليوم الذي اقتنصت فيه تذكرة لحفلة عمر خيرت، في الطريق للمنزل هاتفت أمي وأخبرتها ألا تطبخ لأنني سأفعل، كنت سعيدة وفي مزاج رائق للطبخ، أما حينما أكون محبطة فإعداد الطعام يكن وسيلتي لإخبار نفسي أن كل شئ علي ما يرام، بإمكان الأوجاع أن تذوب تمامًا كما يذوب قالب الزبدة هذا، بإمكان الحال أن يتبدل كما تتبدل مكونات الطبخ من مواد خام إلى صورة أخري، بإمكانى السيطرة لتحويل كل هذه المكونات الممتدة أمامي علي طاولة المطبخ إلى شىء ما يمكن تناوله، مازلت أقوي على السيطرة.


بإمكان قالب كيك أن يمدني في أوقات إحباطي بالدفء.. أنا لست محبة للحلويات عمومًا، ولا تندرج تحت أصناف الأكل التي قد تحسن مزاجي، لكنني أحب رائحة الخَبز في المنزل، ربما هذا ما قد يحسن مزاجي، تمامًا كما أحب رائحة القهوة، دون أن أحب شربها، أما حينما يثني أفراد المنزل علي الكيك، فأشعر وقتها أن ذلك بمثابة اعتراف ضمنى بأننى مازلت أقدر.. حتى لو انحصرت القدرة فى شىء ساذج كإعداد بعض الحلوى.



أعلم ما يدور ف ذهنك حاليًا، ربما تكتم الضحكة في أعماقك علي ما أخبرك به، ربما تتندر علي سذاجتي، لكن أقسم لك أن الأمر قد يكون أعمق مما يبدو عليه من سذاجة، وأكاد أجزم أن العلم قد يمتلك تفسيرًا وجيهًا لذلك، لماذا إذن برأيك ظهر القول الشهير: "When life gets complicated bake a cake

هل تعلم يا صديقي ماذا كنت أفعل في 3 يوليو ٢٠١٣؟ فى أوج الاضطرابات السياسية والتوتر يخيم على الأجواء سواء فى الواقع الفعلى أو الموازى على شبكة الإنترنت أوحتى بداخلى؟ كنت حينها أتابع قالب التشيز كيك فى الفرن!

 ربما هو أمر نسوي بحت قد لا تستوعبه يا صديقي، وربما بالنسبة للبعض يكون التنظيف المقابل للطبخ، فقد أخبرتني صديقة أنها بعد أزمة عائلية ما واجهتها (مسكت الشقة قلبتها) في إشارة منها للمجهود المبذول فى التنظيف، ذكّرتني بمشهد هند صبري في فيلم لعبة الحب حينما تورطت بعلاقة مع خالد أبو النجا، فما كان منها إلا أن نفثت عن توترها بتنظيف البوتاجاز! 


أزعجنى فقط أننى حينما أخبرت بعض صديقاتى بأننى أنفث عن توترى بالطبخ، تأكيداتهن حينها أننى أفعل ذلك لأننى لست مضطرة للطبخ يوميًا، قد يكون فى كلامهم شىء من الحقيقة، لكنها ليست كل الحقيقة، لم يزعجنى حديثنا عن الطبخ بقدر ما أزعجتنى الفكرة الأشمل، بإطلاقنا الأحكام على ما يمر به الغير لمجرد إسقاطه على ما مررنا به.. التجارب ذاتية يا صديقي، وما تقر به أنت على أنه حقيقة فى حياتك، قد لا يكون كذلك فى حياتى، لى تجربتى ولك تجربتك، طبّق ذلك على شتى أمور الحياة من الطبخ للعلاقات بين البشر، كلٌ منا تجربة قائمة بذاتها، فقد يمثل لك الطبخ عبء ويمثل لى متنفسًا للتوازن، قد تسير علاقة ما فى حياتك بصورة ما، وتسير معى بصورة أخرى.. وهكذا..وليس مطلوب أكثر من أن نكن أكثر مرونة فى تقبل الفكرة لإعطاء الغير المجال لخوض التجربة دون إسقاطات من جانبنا  على تجاربهم فى ضوء تجاربنا.

ولذا فسيظل هو وسيلتى فى مواجهتهم جميعًا يا صديقى: الأفكار غير السوية.. والإحباطات.. والتوتر.. ومَن لا يؤمنون بذاتية تجربتك في الحياة..سنحاربهم بالطبخ.


                        دمت بخير وبعيدًا عن الاضطرار لخوض حروب حياتية

                                                                                            من كوكب الأرض.. مع تحياتى،،


 

الأربعاء، 22 مارس 2017

بوسطة 5 - رانيا الخضرى..تانى :)

عزيزتى رانيا .. أكتب لكِ خطابى الثانى، بينما أنتِ تستعدين الآن  لصعود طائرة تُقلّك لتلك البلاد البعيدة، لكن ليس تأثري بسفرك هو السر وراء كتابتى لكِ، رحلتك قصيرة، وباعى مع السفر طويل، اختبرته فى غياب أحبتى مرارًا، وآلمنى قدر ما آلمنى إلى أن أصبحت مشاعرى تجاه فكرة المسافات جامدة، أظن أن الوجع الأكبر يكون دومًا فى اختبارك لشعور ما للمرة الأولى، فما أن يتكرر إلا وتعتاديه، لا يعنى ذلك أنك لا تتألمين من تكرار اختبار مشاعر قاسية، لكن كل ما فى الأمر أنك تعتادى الأمر..هكذا ببساطة.

لما أكتب لكِ إذن؟
أكتب لكِ بسبب ما قرأته عن أننا نحتاج فى أوقات الشتات لأن يتكرر على مسامعنا أننا محبوبين، أننا لازلنا نعنى شىء ما لمن نحبهم، تلك الأوقات التى يتسلل فيها للمرء ذلك الشعور اللعين بالشك تجاه كل شىء.. وكل الأشخاص، حتى المقربين، أو للأحرى ربما أول ما يصيبنا الشك فإنه يختار أن يتسلل لنا بشأن المقربين!
لم يزعجنى سؤالك يا صديقتى الذى أرسلتيه من قلب المطار عما تعنيه أنتِ بالنسبة لى، باغتنى السؤال لا أخفيك، لكنه لم يزعجنى،  ولم أراه ساذجًا كما تصورتى، أعلم ذلك الشعور جيدَا، إذ أنه ربما تسلل لى شك مشابه مؤخرًا فى كثير من مسلمات حياتى، ربما لم أهتدى بعد لإجابات حاسمة، لكننى عاصرت تلك الحالة الشعورية، وأعلم جيدًا حجم الارتباك الذى تترك المرء يصارعه.

لهذا تحديدًا أكتب لكِ الآن.. لأننا فقط نحتاج أحيانًا أن نطمئن أننا مازلنا فى نفس المكانة لدى من نحبهم، نحتاج أن نطمئن أننا لازلنا جيدين بما يكفى لنصبح محبوبين، وأظن أنه باب نمر منه جميعًا، ولندعى ما شئنا من القوة إلا أننا فى النهاية قد نستمد إحساسنا بأنفسنا ممن نفسح لهم فى القلب مكان، وكأنهم يمدوننا بالطاقة اللازمة للاستمرار، أو يوفرون لنا سبب وجيه يجعلنا نجدد صراعنا اليومى مع الحياة، وبحجم مكانتهم فى قلوبنا، نتمنى فقط لو أن لنا مكان مماثل فى قلوبهم.

أنا هنا لأطمئنك يا عزيزتى بكلمات أزعم انها أصدق ما أملك.. علّنى أستطيع بذلك  المساهمة فى انتشالك من أفكار تسحبك كما الدوامات لنقاط مظلمة كقاع البحر، ربما أتمكن بذلك الخطاب أن اسحبك بعيدًا عن الموجات تلك.

هل تذكرين ذلك اليوم فى العام الماضى حينما كنا ضمن منظِمي ذلك النشاط فى مقر عملنا، كنا على "الاستيدج" الممتلىء بالناس حينها، كلانا مكلفة ببعض الأعمال، واليوم يشهد حالة طوارىء بسبب ذلك الحدث الكبير، الحركة على "الاستيدج" تزداد، أفراد كثيرة تعلوه، نبتعد أنا وأنت وكل منا تنجز شىء ما، ثم تنظر كل منا للأخرى، ثم تكمل ما بدأته من انجاز بعض المهام، نظرة  خاطفة سريعة لا معنى لها سوى أننا نتفقد بعضنا البعض، ربما كنا نستمد شىء من الاطمئنان، ثم نكمل، تكرر الأمر أكثر من مرة، أذكر أننى سألتك فى إحداها، هل تريدىن شيء؟ فاجبتينى " لأ..بتطمن بس إنك هنا"، أنا أيضًا يا صديقتى كنت أتفقدتك لا لشىء سو لأتطمئن أنك هنا.

هل تذكرين ذلك اليوم الذى ذهبنا فيه لأداء واجب العزاء؟ كنتِ حينها منهارة، كنا نسير على ذلك الرصيف باتجاه العزاء، وما أن اسير إلى جانبك إلا وأجدك تحيطننى بذراعك، شعرت حينها أنك تناديننى لأتشبث بك، وأنك فى الوقت ذاته تطمئنينى وسط انهيارك أنك بخير ولا داعى لأن أقلق، عنى لى ذلك كثيرًا وقتها لو تعلمين، كنتِ أنتِ من تبكى، و"يطبطب " فى الوقت ذاته.

هل تذكرين يوم أن جلست أتحدث معك قريبًا فى ذلك اليوم عن مشكلة ما أواجهها، حينها أجبتينى: " بدماغ رانيا أنا هعمل كذا..لكن أنا عارفة إن دى مش دماغك..بدماغ سمر أعملى كذا".. ابتسمت حينها لأننى عرفت أننا وصلنا لمرحلة ما من التفاهم جعلتنا نقبل اختلافاتنا، كنتِ من قبل تهديننى الحلول فأخبرك أنها لا تليق علىّ، لا تتفق مع تركيبتى، قتضيقين بى ذرعًا كما لو أنى لا أريد حل، وأضيق بك ذرعَا كما لو أنك لا تتقبلى الاختلاف وتأبين إلا أن أطبّق وجهة نظرك، لكن حينما أهديتنى حلاَ فى ضوء شخصيتى، أهديتنى معه دون أن تدرى شىء من الاطمئنان أننا قد وصلنا لأرض مشتركة تضمنا رغم كل تلك الاختلافات بيننا.

أعدد لك مواقف جمعتنا لأعيد تذكيرك بأنك هنا.. لا فى مكانتك التى تظنيها فى قلبى، بل فى مكانة أكبر رتبتها الأيام والمواقف دون تدخل منكِ أو منى، أعدد لك المواقف؛ لأننا فى أوقات الشتات نحتاج من يذكرنا بأننا محبوبين، لأننا فقط نحتاج حينها أن نطمئن، فاطمئنى وأجمعى شتات نفسك.

وأعلم جيدًا أن ما أود إيصاله لكِ سيصل تمامًا كما أعنيه، إن صدقتيه سيصل، ألم تخبريننى من قبل إن "المشاعر بتوصل".. بتوصل..مش كدة؟ :)