السبت، 27 أكتوبر 2018

لغز الحنية


ربنا يحنن قلوبكوا على بعض دايمًا"

كانت دعوة جدتي التي طالما اندهشت منها؛ لأن تصوري المحدود حينها كان يُخيِّل لي أن دعوة كتلك تناسب أشخاص في حالة خلاف فتستجديهم الدعوة لأن "تحن القلوب على بعضها"، ويذيبوا خلافاتهم وينبذوها، أما أن تردد جدتي تلك الدعوة وتكررها في أوقات عادية تمامًا ولأشخاص لا خلافات بينهم، فكان أمرًا يستوقفني دومًا، لا لدرجة أن أستفسر عنه، كان مجرد توقفًا عابرًا فحسب، ولو كنت أعلم أن كل ما يدور في رأسنا من أسئلة أمرًا ينبغي ألا يقبل التأجيل لسألت فورًا، لو كنت أخذت بنصيحة إبراهيم أصلان التي دونها في كتابه "حجرتان وصالة" حينما كتب: "أي سؤال يشغلك أسأليه"، لكنت استفسرت من جدتي؛ لاستخلص الحكمة مبكرًا، ولأسّد على نفسي بوابات الحيرة والتخمين والتكهن، وهي أقسى بوابات قد يعبرها المرء بمفرده.

لم أسأل فرحلت جدتي ومعها سر الدعوة، تمامًا كحال كل أسئلتنا التي تؤرق أذهاننا وتأكل من أرواحنا، لا لأن لا إجابة لها، وإنما لأننا أحيانًا لا نبذل محاولات جادة من أجل أن نهتدي لإجابة، ربما لأننا أجبن من أن نتحمل الإجابة في أحيان أخرى، أو لأن دور التائه المُعذَب يعجبنا تقمصه، وكل سؤال بلا إجابة تيه، ألا يُقال أن الهُدى هو أن تهتدي للحيرة؟

  ومع الوقت بدأْتُ في الفهم، وبدأَتْ الإجابة على سؤالي بشأن معنى دعوة جدتي تتضح.. بدأ لغز الحنية يتكشف، فعرفت أني كنت محدودة الرؤية، وأن جدتي كانت أحكم من رأيت في حياتي.


(1)
أطالع ذلك المنشور على فيس بوك الذي يقول صاحبه: "ربنا يرزقك بحد ما تهونش عليه"، فأعي جيدًا إن جوهر أعمق العلاقات الإنسانية قائم على الحنية، على ألا تهون على الآخر أبدًا وألا يهون عليك، على أن نلتزم في خلافاتنا بالبعد عن الغلظة والقسوة على أحدنا الآخر، ألا نعاقب بعض، وأن نتنازل عن أنانيتنا في أوقاتنا العادية فنهدي أحبابنا من وقتنا، نستمع لقصصهم..نبادلهم الحكايات.. نشاركهم ما يحبون ولو لم نحبه، كان المعنى الضمني للمنشور أن يرزقك الله في طريقك بمن يتخذ اللين دستورًا في تعاملاته معك في كل الأوقات.. وكان ذلك أيضًا معنى دعوة جدتي.


(2)
تستقر تلك الصورة -التي طالعتها مرة على فيس بوك- في مخيلتي وأراها فائقة الجمال رغم بساطتها، في الصورة رجل وامرأة يبدو على ملامحهما أن خلافًا قد نشب بينهما، وينهمر المطر فوق رأسيهما، والرجل رغم غضبه يضع شمسيته فوق رأس المرأة لحمايتها من المطر، أُمعن النظر في الصورة فأدرك أن الشمسية لا تقي المرأة من المطر فحسب بل تقيها الإحساس بالهوان والإهمال، الشمسية لم تهديها حماية من قطرات المياه، بل أهدتها حنان في أوج الخلاف..في الصورة كانت ترجمة لدعوة جدتي.


(3)

أتذكر ملحوظة عابرة قالتها أمي منذ سنوات بعيدة للغاية، في حكاية عن خلاف بين زوج وزوجة في محيط معارفنا، امتنعت وقتها الزوجة عن إعداد الطعام لزوجها وأطفالها؛ لشجار اندلع بينها وبين زوجها، فكان العقاب أن لا غداء لك ولا لأطفالك، توقفت أمي عند ما فعلته الزوجة مستنكرة قسوة قلبها، أستعيد ملحوظة أمي بعد سنوات، فأجد في استنكارها لما فعلته الزوجة ترجمة لدعوة جدتي.


(4)
في سفري مع صديقاتي، نتقاسم المهام بيننا، غسل الصحون، إعداد وجبات الفطور، لم المائدة بعد الغداء، تبدو كل الأمور أسهل وهي موزعة على أطراف تعيش معًا، لكنني كنت أسعد حينما أجد إحدى صديقاتي تباغتني بكي ملابسي بعد الانتهاء من ملابسها، وكذلك كنت ألمس نظرات الامتنان في عيون صديقاتي إن فعلت ما هو أزيد عن المفروض علي..لا بأس بغسلي الصحون رغم إعدادي للفطور، لا بأس بأن نقدم المزيد طالما نستطيع، وطالما أن مَن نقدم له المزيد يقابل ذلك بالامتنان والتقدير، لا إنه شيء واجب أو من المسلمات، أراجع تصرفات كتلك بيني وبين صديقاتي، فأجد ترجمة لدعوة جدتي.


أمِد الخط على استقامته في شتى العلاقات الإنسانية.. أُمعن النظر في تلك التصرفات الدافئة، فأجدها على قدر بساطتها عماد قوي لاستمرار العلاقات، يأتيني في خلفية رأسي صوت وردة الشجي وهي تغني: "الحنية..طب فين هي..ابكي يا قلبي على الحنية"، فأؤمن بأن الحنية كنز فقدانه يستدعي بكاء القلب، وأن الحنية لغز مَن يفك شفراته ينعم بعلاقات إنسيابية دافئة مع أحبابه، لأفهم الآن..الآن فقط، أن جدتي كانت تدعو لنا بما هو أثمن من النعم المادية الملموسة..بقلوب لينة تحن على أحبابها، ولا تتخذ القسوة إليها سبيلاً.

الخميس، 2 أغسطس 2018

بوسطة 7 - تيتا


حبيبتي تيتا ..
سبعة أشهر مرّوا على رحيلك.. نصف سنة كاملة بدونك.. رمضان وعيد..وأيام كثيرة عرفت فيها كيف كنتِ تُضفين على هذا العالم توزان من نوع ما؛ لأن اختلال ما قد أصاب العالم بعدك..عالمي، كان جميلاً لأنك فيه، وأصبح موحشًا في كثير من جوانبه بعد رحيلك

اليوم ٢-أغسطس..ذكري ميلادك، والحقيقة إنكِ تولدين كل يوم في قلبي من جديد بفيض الذكرى..بفيض كل أثر جميل تركتيه خلفك
حبيبتي..أنا بخير حال، أكتب وأنا في اتزان تام فلا تقلقي..غير إني في حالة افتقاد تام إليكِ..افتقدك كثيرًا، وافتقد التحدث إليكِ، ولأنه لا يمكن التحدث إليكِ، فأظن أن بإمكاني الكتابة عنكِ؛ لأن الكتابة وسيلة لتذكير الآخرين دومًا بمن رحلوا، ووسيلة لأبقيكِ دومًا في الأذهان، أنت سيدة لا تُنسى يا حبيبتي، وأود أن أجدد من حين لآخر إخبار الجميع كم أحببتك، وكم كنت محظوظة بأن ينعم الله عليّ بجدة مثلك..جميلة كما أحب دومًا أن أصفك، وكما يليق بك على الدوام


مازلت اتجنب الوجود في شقتك، وإن اضطرتني الظروف، فأتجنب ما استطعت النظر إلى غرفتك، فراشك الخالي موحش..لا يليق به أن يصمد بعدك، أتذكر تلك الجملة من أغنية أنغام: "والنسيم حس بفراقك سحره غاب"، أراها تنطبق على حال غرفتك بعد رحيلك..هي كما هي، لكن غاب عنها سحرها بغيابك، يبدو أننا لا نحب الأماكن إلا بناسها الذين أحببناهم فيها يا جدتي، وبدونهم تتحول إلى جدران ..مجرد جدران بلا معنى أو روح


مازلت غير متأقلمة على فكرة عدم وجودك بشكل تام، حتى أنني أضبطني مُتلبسة في بعض الأحيان بترتيب يومي متضمنا المرور عليكِ، أو بتجميع بعض المواقف في ذهني لأقصصها عليكِ، ثم انتبه إنه ليس بإمكاني المرور عليكِ، أو إخبارك حكاياتي،  وبقدر كل الشجن لرحيلك، إلا أن رحيل كهذا يثلج صدري؛ لأني لم أركِ تتألمين، لم أركِ ضعيفة، وكأن الله أهداك أكثر ما ميزك طوال حياتك: الخفة، خفة الحضور، وخفة الرحيل


قضيت يومًا في نوبة اشتياق مفرط إليك لأفكر لمَ كنت أحبك؟ أو ما أكثر شيء أفتقده فيك؟ ..فأكتشفت إن شيئا كبيرًا من الحب المستقر في قلبي لكِ كان بفضل أمور بسيطة للغاية، فاستعدت في ذهني ما أخبرتني به صديقة يومًا: "الحب أساسًا مرتبط بأمور ممكن تبان تافهة"..لكنني إن تسنى لي تعديل نظرية صديقتي، فسأكون أكثر ميلاً للتصديق بأن الحب أساسًا مرتبط "بالحنية"، ربما تلتقي نظريتي ونظرية صديقتي في نقطة واحدة وهي أن الحنية قد تظهر في أمور تافهة للغاية، كما كنتِ تفعلين مثلاً بإصرارك على تقطيع الفاكهة لي بيد مرتعشة.. أو في سؤالك الدائم في كل مرة وأنا أهم بالمغادرة بعد زيارتك: "محتاجة فكة للطريق؟".. أو في نظرة منتفضة وقلقة إن ظهر علىّ بعض الإجهاد


أحببتك يا جدتي بفضل الاستماع، وقدرتك على مجاراتي في أي شيء أتحدث فيه، أعلم أن نصف ما أحكي لم يكن في نطاق اهتمامك، أو ربما لم تستوعبيه بشكل كامل كامرأة مسنة باتت أمور العالم المحيط معقدة بالنسبة لها، لكنكِ كنتِ تستمعين إليّ بإنصات شديد، والأجمل تستمعين بعاطفة حاضرة، فتنقبض معالم وجهك إن كنتُ أحكي ما يزعجني، أو تتهلل فرِحة إن كنت أحكي ما يبهج، مع دعوات حاضرة في كل الأحوال، ربما أعي الآن جيدًا أن قدرًا كبيرًا من الحب يكمن في القدرة على الاستماع للآخر، وأن أثمن ما يمكن تقديمه للمحبوب هو بعض من الوقت لمشاركته قصص حول ما يدور في عالمه وإن بَعُدت تمامًا عن نطاق اهتمام المستمع.. هكذا تلتقي العوالم المختلفة فتصنع عالم جميل يتشاركه أطراف غير متشابهة، وهكذا يكون جوهر الحب.. القدرة على إدارة المساحات غير المشتركة

أحببتك لأنكِ كنتِ حلوة اللسان، فلا تطلبين إلا بعبارات مهذبة وبأدب جم، ولا يتم ما طلبتِ إلا وعبارات الشكر والثناء تحيط بمن أتم طلبك

أفتقدك يا تيتا..افتقد ذلك الإحساس بإن قلبي خاليًا تمامًا مما يؤرقه لأنه فقط قد أفرغ كل شحنته- بشكل غير مباشر- في الحكي معك، كنت أهرب من إخبارك بما يزعجني مباشرةً خشية تأثيره عليكِ من فرط إحساسك، وكنتِ دومًا تهربين من أن تثقلين عليّ بإلحاح يستدرجني للحكي، لم أحك أبدًا ولم تسألين أبدًا، لكن كانت تكفيني نظرتك القلقة بشأن ما أضمر، كنت أفهمها جيدًا، وكانت وحدها تطهرني من كل أوجاعي، وكأنني حكيت وتلقيت كل ما أحتاج من دعم، فتتخفف روحي


أما أخر ما انتهيت إليه في تفنيد أسباب حبي لكِ: "من غير ليه".. لا يرتبط الحب في حقيقته بأسباب يا جدتي، ربما قد يرتبط استمراره بأسباب بعينها ، أما حدوثه فلا يصلح معه سؤال لماذا؟.

سأكتب عنكِ يا حبيبتي من حين لآخر، لأن مثلك لابد ألا يغمره النسيان. سأكتب لأخبر الجميع أنني أحبك، وليعرف الجميع كم كانت جدتي جميلة.

الأحد، 22 يوليو 2018

ح ك م


(1)

كطفلة طالما أحبت أن تقفز لتسير على بلاطات الرصيف ذات اللون الواحد، وكفتاة استهواها عّد درجات أي سلم مشاه تصعده، مازلت إلى اليوم أجد تسليتي وأنا شابة في الطريق، وذلك  بتجميع حروف لوحات السيارات، أو بالتدقيق في العبارات المكتوبة على ظهر سيارات الميكروباص، والتي تبدو كأنها خلاصة خبرة سنين السائق،  فأتذكر دومًا صديقتي التي كانت تضحك قائلة: "هو ليه كل سواقين الميكروباص مجروحين عاطفيًا؟".

في الطريق أتابع الجُمل المكتوبة على الميكروباصات فأجد تعزيتي في الزحام والحر، ولإسكات رأسي قليلاً عما يضج به من أفكار، يصبح البحث عن الميكروباصات المحيطة بي، لقراءة عباراتها تسليتي الكُبرى خاصةَ في الإشارات التي تشعر بأنك تقف فيها أكثر مما تسير في الشوارع.


(2)

طالما مست قلبي فكرة التقدير، أجد فيها وصفة سحرية تصلح كضامن لاستمرار كثير من العلاقات الإنسانية بشتى أنواعها، أن يُقّدرك الآخر أي أنه يعترف بشكل غير مباشر بمجهوداتك، يعكس لك أن ما تبذله لا يضيع هباء، وإنما يصل إلى قلبه فيشعر به، وإلى عقله فيدركه، وبأي فعل أو قول يعكس تقديره لك ولما تفعل، فإنه بذلك يُنشِّط من جديد قدرتك على مزيد من البذل والعطاء، وكأن التقدير "طبطبة" تهّون عليك عناء البذل، فتدفعك لمزيدٍ منه "عن طيب خاطر".

أتعجب كثيرًا من وقع كلمات بسيطة في إنعاش العلاقات  كــ " شكرًا"، " تسلم إيدك"، "ربنا يخليك"، أو من أفعال بسيطة كنظرة امتنان، أو ابتسامة، أو تربيت على الكتف، وأتعجب أكثر إنها على قدر بساطتها صارت أقوال وأفعال تتعطش لها القلوب، فيبخل بها البعض، ولا أظن أن هنالك ما هو أسوأ من أن تشعر بإن ما تبذله من قلبك بحب، يُقابل على إنه من المُسّلمات.


(3)


طالعت ذات مرة على فيس بوك "ستاتس" لأحد المستخدمين ممن أتابعهم، يذكر فيها إنه يشعر بسلاسة وبارتياح أكبر في التعامل مع مَن يجيد تقدير نفسه، وكأن أمامه نقطة بداية ونهاية واضحة للشخص الذي يتعامل معه.. شخص حدوده معروفة للجميع، فيُسهِّل على الجميع التعامل معه، فاستقر من يومها في ذهني إن شخص لايجيد تقدير نفسه.. هو شخص يضلل الآخرين عن كيفية التعامل معه بما يستحق، وصف الراحل د. أحمد خالد توفيق فكرة مشابهة في كتابه " السر وراء السطور"، حينما شبّه أي كاتب يدّعي في نفسه عدم تحليه بموهبة الكتابة من باب التواضع، بالتاجر الذي يبيع للناس بضاعة فاسدة، فكيف تعرض لي إذن منتجك الأدبي في الأسواق ثم تخبرني إنك لا تجيد الكتابة؟ بضاعتك إذن فاسدة!


 (4)

في الإشارة كنت مازلت أقف عالقة في الزحام، ونظري مثُبّت على تلك العبارة المكتوبة على ظهر الميكروباص الواقف أمامي: " التقدير خسَرنا كتير"،  وعلى حروف لوحته المعدنية " ح    ك   م".
تمتمت في سري: صدقت!، ربما خسرنا حينما أنسحبنا من مشاهد لم نقُّدر فيها كما نستحق، لكنها خسارة نسبية لشىء..مقابل الفوز بشىء أخر.

أمعنت النظر في حروف اللوحة وفي العبارة المكتوبة، ووددت لو بإمكاني أن أدُخِل بعض التعديلات على الميكروباص دون أن يسبني السائق، لو كان فقط ذلك بإمكاني.. لأضفت للعبارة: " بس خلانا نكسب نفسنا" .. ولأضفت التشكيل للحروف : " حِ كَ مْ".



الاثنين، 2 يوليو 2018

رحلة الفهم الطويلة

شعور عميق بعدم الفهم يحيطني ويحاوطني.


 كما لو أن الكون بأكمله بكل شخوصه وأحداثه تحول إلى علامة استفهام كبيرة، إلى مسألة رياضية أجهل حلها، وأنا طالما كرهت الرياضيات..وأكره عدم قدرتي على الفهم.


أقف بعد عدة شهور أجبرت فيها نفسي إجبارًا على التجاوز، وعدم الوقوف أمام أي شيء وتجنيب نفسي التعامل الجدي مع الأشياء؛ لأنني إن كنت تركت المجال لذلك، ربما لم أكن لأغادر فراشي، لذا تجاوزت..ثم تجاوزت..ثم "سايست" نفسي كطفل أخبره بضرورة أن يتصرف بتهذيب بالغ..وبطاعة متناهية، فصرت كمن يلقِّن صغير: دعك من هذا..تجاوز ذلك..لا تلتفت لهذا..لا تستسلم الآن..لا تنهار ..أصمد قليلاً يا صغيري لا بأس.

 لا أفهم ماذا يتبقى لنا من الحياة إن صرنا نتعامل مع كل شيء بنظرية "عديها"؟، وفي الوقت ذاته لا أفهم كيف ستسير الحياة إن توقفنا أمام كل شيء يزعجنا، و"ماعديناش"؟. 



تجاهلت قدر الإمكان وانتشلت نفسي انتشالاً من وحل الأفكار المربكة الذي سقطت فيه لشهور طوال، فبدوت كمن يتحكم في زمام أمور حياته للمنتهى..هكذا يبدو، لكنني كنت أواصل بشكل آلي، تدهشني أنا شخصيًا قدرتي على الإنتاج في أوقات ارتباكي، لم أفهم كيف بإمكاني أن أنجز مهام عديدة في تلك الأوقات ثقيلة الوطء على النفس بعكس طاقتي في الأوقات العادية، لم أفهم هل انغماسي في أداء المهام في أوقات الهشاشة مقاومة للانهيار أم استسلام تام لدوامة الحياة يأتي في صورة استمرار بصورة آلية؟ .. لم أفهم..لم أفهم قط، على أي حال أسجل مجرد القدرة على الاستمرار وقت الهشاشة في خانة الانتصارات..الانتصارات العظيمة.  



لا أفهم كيف أجيد التجاوز ببراعة كبرى وبثبات انفعالي أمام أحداث مزلزلة، ثم على حين غفلة تنهار كل وسائل دفاعي أمام أحداث يمكن تصنيفها على أنها توافه الأمور، ولا أفهم كيف أدير كل هذا الغضب بداخلى فأسيطر عليه في حين يكن صدري ممتلئًا ببراكين غير خامدة، تتردد على مسامعي من حين لآخر جملة تكررت من مقربين وفي مرات عديدة في أوقات ارتباكي: "ما بنخافش عليكي"، في إشارة منهم لتوسمهم فيّ القدرة على إدارة شئون حياتي، فلا أفهم أهي جملة تنطوي على إشادة فأفرح بها، أم أنها تُحمِّلني ما يفوق حاجتي الإنسانية للتعبير عن ضعفي وارتباكي وعدم قدرتي على التصرف؟!..لا أفهم.



لا أفهم كيف عبرت ذلك الجسر المخيف من الغضب، لا أفهم هل عبرته أصلاً؟ ولا أفهم كيف يأتي أحيانًا الانهيار في صورة تبدو على أنها صمود، هل لأننا لا نملك أحيانًا خيار آخر سوى الصمود، ولأن الانهيار يصبح أحيانا رفاهية لا نمتلكها؟.



 أفشل في التمييز إن كان تكرار المحاولات مع بعض المسارات التي تعصانا في حياتنا يُصّنف على إنه "طول نَفَس" أم إنه استهلاك للنفْس في غير محله؟ لا أفهم إذ يُقال: " أنه قد يبدو الصبر غباء أحيانًا".*



يستعصي على فهمي أيضًا استيعاب مرور الوقت، فلا أعرف متي حدثت كل هذه الأمور؟، متى قطعت كل هذه المسافات في حياتي؟، انظر للخلف فيبدو أن قفزة زمنية قد حدثت على حين غفلة، فلا أفهم كيف يمضي الوقت سريعًا في حين كنت أشعر حينها بثبات عقارب الساعة..بثبات ورق النتيجة مع اختلاف أرقامه فقط كل يوم، متى أصبح الوقت وحدة لا تصلح لقياس الزمن بدقة؟ كم من الوقت انقضى على رحيل هؤلاء؟، ومنذ متي جاء هؤلاء؟، متى أصبح في حياتي أصلاً ذلك الفارق بين هؤلاء الأولى والثانية؟، متى وقفت عند مرحلة محددة وأبيت مغادرتها بحيث لم أعد استوعب توقيت أو كيفية كل ما جاء بعدها؟.



لم أعد أفهم حسابات الزمن المربكة، أتخيلني كعرزال بن أزرق- أحدى شخصيات رواية حمام الدار - حينما كان يُعبِّر عن كل الزمن الماضي بكلمة أمس، فالبارحة عنده هي أمس، وعشرة سنوات مضت هي أيضًا أمس، صرت مثلك يا عرزال، عالقة في حسبة مربكة، أم تُراك حكيم لدرجة أنك لا تهتم بتوقيت ما مضى، ويهمك أنه قد مضى فحسب دون أن يفرق إن كان بالأمس أو بأمس أخر من سنوات بعيدة؟.


 أصاب إحسان عبد القدوس حينما قال: " إن العمر لا يُحتسب بالسنين، ولكنه يُحتسب بالإحساس"، تحتمل عبارته أيضًا أن ما يتبقى من مراحل العمر المختلفة هو ما ما يعْلق في قلوبنا من مشاعر، ولذا قد نتجاوز مرحلة ما بحسابات الوقت، لكننا لا نتجاوزها كليًا بحسابات الإحساس الذي زرعته فينا تلك المرحلة، ويتسع ذلك لكل أنواع الإحساس من حب وكره وامتعاض وفخر وارتباك وخذلان ..وغيرها، بإمكاننا تجاوز مرحلة مضت، لكن لا يعني التجاوز أبدًا أن ننسلخ مما شعرنا به في هذا الوقت، على طريقة: "نسيت كم من الوقت مضى على ذلك، لكني لن أنس أبدًا كيف شعرت حينها"، وأظن أننا هكذا نتعلم، ببقايا مشاعر كل مرحلة، فإما ننخرط في تجارب تعيد إحياء مشاعر جميلة بعينها، وإما بتجنُب تجارب نظنها ستعيد إنتاج مشاعر سلبية، أما الفهم.. فأظنه لا يكتمل أبدًا، ربما نقترب فقط منه، نلملم تفاصيل أكثر مع كل مرحلة حياتية، لكن دائرة الفهم لا تكتمل على الأرض، لذا لا يُخيفني عدم الفهم، ربما يزعجني.. لكنه لا يُخيفني؛ لأن هذا ما يُشكلني ويصيغ تجربتي الإنسانية.. لأن جزء من كل إنسان أسئلة لا تُجاب أبدًا، وقصص لا تكتمل أبدًا، وحركة لا تسكن أبدًا، ولذا لا أتوحد مع أي شخص يدّعي بطولة السيطرة على شتى تفاصيل حياته..أو  يدّعي الفهم التام لشتى نواحي الحياة، بينما يأسر قلبي من يتصالح مع هشاشته وارتباكه، إذ أرى فيه..الإنسان.




* من رواية عزازيل للكاتب يوسف زيدان

الاثنين، 18 يونيو 2018

نهاية بلا نهاية


لم تعد خسارتنا للأشخاص تأتي عقب مشاجرة مزلزلة كما كان الحال أيام طفولتنا، بِتنا نخسرهم دون شجار من الأساس، تتكدس التراكمات واحدة فوق الأخرى، موقف بعد موقف، فينبني حائط من الخيبات يفصلنا عنهم، وينتهي كل شيء ..هكذا ببساطة. 


يُقال أن لا علاقة بين أي اثنين تنتهي بفعل الموقف الأخير، وقد يتصادف أن يكون الموقف الأخير هو الأكثر سذاجة بينهما، لكن ما يُنهي العلاقة حقًا التراكمات،  وأظن أن الأمر ذاته ينطبق على شتى أنواع العلاقات الاجتماعية، تُنسَج النهاية على مهل منذ أول موقف أوجعنا بحق وغضضنا الطرف عنه، ومرة بعد مرة نفقد قدرتنا على التغافل، وتتلاشى قدرتنا على الاستمرار، لنكتشف حينها أن جرح أول موقف لم يندمل، ولم نشف منه تمام الشفاء، وكأننا فقط اخترنا ألا نتألم منه بصوت عال؛ ظنًا مننا بأن التحايُل على ما يؤلمنا يضمن لنا تعافي أسرع، لكن لا خَدر يمنع التألم نهائيًا، هو فقط يؤجل موعد إحساسنا به، لتأتي مواقف تالية فتجدد النزف من الجرح القديم مع جراح جديدة، فتصعب المداواة .


تبدل شكل الخسارة، فلم تعد روابط جمعتنا بالبعض تنتهي بنقطة واضحة في أخر السطر، بِتنا نألف شكل أخر للخسارة نلتقي فيه هؤلاء كل يوم، نحدثهم كل يوم، لكن الفارق أنهم يكونوا قد سقطوا من ذلك البرج العالي الذي وضعناهم فيه في قلوبنا، أتذكر ما كُتب يومًا على أحد وسائل التواصل الاجتماعي بما معناه "لا يُشترط أن أعاملك بسوء إذا كنت غاضبًا منك، صرنا أنضج من ذلك"، أضيف: "لن أدير وجهي حينما أراك، يكفي فقط أنك سقطت من قلبي" .

نلتقيهم .. نتعامل معهم- ربما بشىء من عدم الأريحية- لكننا وهم نعرف جيدًا أن ما كان لم يعد موجودًا، صار ما يجمعنا ضرورة لا أكثر، صارت مساحتهم في القلب خالية.. تحول بستانهم المزهر في القلب إلى صحراء مقفرة، أما مساحتنا التي شغلناها في قلوبهم فيكون نصيبها الشك في أنها كانت موجودة في يوم ما من الأساس، وشيئًا فشيء تبهت العلاقة تمامًا وتتلاشى كأنها لم تكن، عبّر عز الدين شكري فشير عن ذلك في كتابه باب الخروج حينما قال: " افترقنا وانتهى الأمر بيننا.. لا دراما، مجرد شعور مستقر بأن ما ضاع لن يعود، وربما لم يكن موجودًا وتخيلته أنا أو تمنيته".

مؤسفة للغاية نهايات كتلك.. ليتنا تشاجرنا ليتوفر لنا سبب منطقي للنهاية!.

هم ليسوا سيئون، لكننا بالغنا في تصديق أنهم أفضل مما هم عليه، ربما فقط أسأنا الفهم فأعطينا للآخرين أكثر مما يستحقوا، وخوّلناهم مكانة لم يكونوا أهلاً لها، ربما الخطأ في التقدير غير السليم للأشخاص ومكانتهم، لا أنهم تبدّلوا أو تغيّروا،  ربما الخطأ كله أننا لم نتمتع فحسب بالبصيرة الكافية، فكانت رؤيتنا قاصرة..منقوصة.. وتنطوي على تضخيم ومبالغة.


أفكر .. هل لي أن أحزن؟ 
فأسارعني بالجواب في هيئة سؤال، وهل يحتاج الحزن إلى إذن؟ يغمر الحزن المرء بلا استئذان، يتمكن منه في الوقت الذي يتصور أنه بفعل خيبات سابقة أنهى مخزون الحزن كله لمنتهاه، لكنه مرواغ، الحزن مرواغ، يأتي أحيانًا بلا مقدمات، ويعصانا أحيان أخرى في أوج هزائمنا فلا نشعر به، لكن يظل الحزن دومًا شعور إنساني طبيعي مهما سفه السبب أو تعاظم، لذا طبيعي أن أحزن.. لا عليهم..وإنما على حسن الظن الذي لم يكن في محله، أو ربما على صورة جميلة لهم في مخيلتي لم تكتمل أبدًا، يبدو إنه حقيقي ما يتردد عن إن السعادات غير المكتملة تولد حزنًا مضاعفًا، بينما السعادات التي لم نعرف إحساسها من الأساس يكن وجعها أقل..وجع تمنيها فحسب، أما وجع أن تمتلك ثم تفقد فبالغ القسوة، ربما لذا يأسرني دوما تعبير: ( لقد مسنا الحلم مرة)..وأستشعر فيه شجن عميق سواء على صعيد وطني أو على أصعدة حياتية شخصية.  

أعاود التفكير.. هل لي أن أندم؟ 
أتردد في الإجابة إلى أن استقر عليها: لا، فكل تجارب الحياة دروس لأصحابها، وبعضها فقط نتعلمه بطريقة مؤلمة، لتظل برغم الألم منطوية على ما يصقل المرء ويعيد تشكيله، ويبقى الأمر المطمئن في النهاية أن البِر لا يَبلى، كل بِر بذلته النفس للغير وتبين أنه لم يكن في محله لن يبلى عند الله، فعلام الندم؟.


استطرد التفكير، وماذا إذن عن هذا الوقت المنطبع في القلب كندبة، هل سيمضي ويزول أثره الثقيل؟ 
يبادرني جاهين بالرد: "هتنتهي ولابد راح تنتهي، مش انتهت أحزان كتير قبلها؟".
  




الأحد، 22 أبريل 2018

أنتم لي يوتوبيا

انزل للحديقة المُلحقة بذلك المكان تضييعًا للوقت لحين انتهاء  الموظفين من بعض الإجراءات الإدارية التي تخصني.

في الحديقة يترك صديقان- في بداية العشرينات على ما يبدو - كل المقاعد المخصصة للجلوس ويستقرا سويًا على درجة مرتفعة قليلاً عن الأرض، أو بالأحرى يستقر أحدهما على تلك الدرجة، بينما يجلس الآخر أمامه في وضع القرفصاء منتبهًا لحديثه، يتبادلان سويًا حديث في انهماك شديد وتتسرب لسمعي بضع كلمات فيبدو أن حديثهما عاطفي، يشتكي أحدهما ويسدد الأخر نصائح، اختلس من حين لآخر رغمًا عني بعض النظرات لهما إذ شدني المشهد، بإمكان الرائي أن يلمس علاقة صداقة حقيقية تعكسها الوجوه التي تحمل الهم ذاته..بدا كلاهما بنفس الاضطراب لدرجة أعجزتني لوهلة عن تحديد مَن الشاكي ومًن المنصت، أحببت المشهد ولمس شيئًا ما في قلبي.



الأصدقاء الحق والأحباب وكل مَن يشعر المرء بالألفة في حضرتهم، هم وحدهم السلاح المضمون في الحرب مع الحياة، ووحدهم القادرين على تغليف القلب بالسكون وسط فوضى العالم،  وعالم يسكنه الأحباب ومَن يأتنس القلب بهم وتتبدد معهم وحشة الدنيا وغربة النفس هو يوتوبيا خاصتي، أتقدم سنًا وفي كل عام تتأكد لي هذه الحقيقة: "أعظم ما قد يجنيه المرء في حياته صُحبة وونس يُبددا مخاوفه ويعيناه على صعاب الدنيا". 

بعكس السائد عن المفهوم، لم أعد أرى يوتوبيا مكانًا حالمًا مثاليًا للغاية.. في الواقع باتت تؤرقني جدًا فكرة المثالية، وصرت أراها فكرة ساذجة مرهقة لمن يعتنقها، بينما لا وجود لأي مدينة فاضلة على الأرض، ولن يمكن تحقيق ذلك على أي حال، ولا تشاؤم في ذلك وإنما واقعية.

نحن جزء ضئيل وصغير جدًا في عالم أكبر، وما عاد يعنيني العالم على اتساعه في شيء، لم أعد التفت إلا لعالم صغير جدًا..عالمي، وأحاول أن أراه متسع بمنظوري أنا.. عالم رحب متسع بتفاصيل صغيرة مريحة فحسب، قد يبدو للأخرين بسيط لدرجة الضآلة ولكني أراه مريح لدرجة الاتساع السرمدي..هذا ما يهم، أما العالم بمفهومه الواسع وأن يحمل المرء قضايا الآخرين على عاتقه أو أن يفني عمره في سبيل بعض القضايا ..فاستهلاك للنفس، يقول عز الدين شكري فشير: "لا قضية تستحق أن يموت المرء لأجلها".. وبعد أن تجاوزت حماسة الشباب الهوجاء وأنا في عز شبابي كمثل كثيرين من أبناء جيلي الذين كبروا سنوات عدة في سنوات قصيرة تلاحقت فيها الأحداث وانهار فيه كم هائل من القناعات والنماذج، وامتزجت فيه الهزائم الشخصية بالعامة ..بإمكاني أن أتمتم خلف فشير: صدقت..لاقضية تستحق.

من المهم أن يختار المرء معاركه بعناية سواء أكان ذلك على المستوى العام أو الشخصي، أما الحماسة المفرطة التي تقود للتورط والانخراط مع كل القضايا والموضوعات فلا تنتهي إلا بخيبات مدوية، وطاقة يكتشف المرء في النهاية أنها أُهدرت فيما لايستحق، ولا يعني ذلك ألا يختار المرء سوي المعارك المحسومة بالفوز فحسب ليخوضها، وإنما فقط أن يتمتع بحس انتقائي لما يستحق تبديد الوقت والجهد لأجله، وإن انتهى الأمر بخسارة حينها، فإن النضال والمحاولة هما الانتصار، بغض النظر عن النتيجة الكلية للمعركة.

ووسط معارك الحياة، لم أعد اهتز بفعل الشعارات البراقة .. ولا بنداءات لعالم أجمل وأنقي يتسع لضم شمل الجميع ..بلا حروب..بلا نزاعات، بت أري الاعتقاد باستحالة تحقيق ذلك درجة عالية من الاتساق مع النفس ومن الواقعية.. لا درب من الاحباط والتشاؤم، أظن المتشائم ليس مقابلاً للحالم، وإنما الواقعي هو الضد المقبول في نظري.

 إذن فلتتركني قضايا العالم وشأني، فليذهب الشأن العام والاهتمام به للجحيم، فليذهب الأمل في مدينة فاضلة تضمنا للجحيم، فليتركني العالم وأحبابي فقط وشأننا، فليلغي بيننا المسافات.. فليجمعنا سويًا لنتشارك همومنا، ونتبادل النكات سخريةً على أحوالنا، فليتركنا نخطط سويًا لنزهات قصيرة بصفة دورية نترك فيها مصاعب  الحياة جانبًا ونعيد شحن أنفسنا بوجودنا معًا ، أو يتركنا ننعم بجلسات هادئة نتبادل فيها أطراف الحديث ونحن نشرب شاي العصاري، فلتسمح لنا فقط الدنيا بالائتناس بالأحبة وسط الصراعات التي تملؤها، ثم فليذهب كل شيء بعد ذلك للجحيم؛ لأن لا شيء بعد ذلك يهم.. لأن العالم مكان مقبض ومخيف، وبلا مَن يألفهم القلب تزداد وحشته وقتامته، لأن كل القضايا الكبرى هراء، ولأننا عناصر ضئيلة جدًا جدًا في عالم يسير وفق سيناريوهات تغلبها المصالح وما هو أعقد من أن تستوعبه عقولنا المحدودة

أحبابي وأوقاتي مع مَن يشبهونني هم يوتوبيا بالنسبة لي، وإن كان من المستحيل خلق عالم كبير مثالي، فإن العالم بكل صراعاته وتضارب النفوذ فيه فقط مع وصْل أحبابي مثالي بما يكفي، على الأقل سندير حينها صراعاتنا ضد العالم معًا، هذا فقط ما يهمني.. هذه فقط هي يوتوبيا في نظري..ثم ليذهب بعد ذلك كل شيء للجحيم، فإن كانت المدينة الفاضلة يستحيل وجودها على الأرض، فيكيفيني قرب أحبابي ممن أشعر معهم بأن أي مكان أفضل من أفضل مدينة.

السبت، 31 مارس 2018

قضية عم أحمد


في كل مرة أفعلها أتخيل نفسي في موقف موازي لذلك المشهد من فيلم رسائل البحر، حينما كان آسر ياسين يظل واقفًا تحت تلك النافذة هائمًا مع العزف المنبعث منها.. لم ير أبدًا مَن يعزف، ولم يهتم بأن يراه، فقط كان ينتظر العزف، ثم في تبتُّل وخشوع يقف للاستماع مُحلِّقًا بقلبه في عالم آخر تخلقه الموسيقى.
أنا أيضا أقف بخشوع وتبتُّل  وأنا استمع لتلك الأنامل الصغيرة التي لم أرَ صاحبها قط، يأتيتي الصوت منطلقًا من المدرسة الابتدائية التي أسكن إلى جوارها.. فيذوب قلبي.



طالما استيقظت على أصوات مُنبعثة من تلك المدرسة، تلاصق غرفتي فصولها دون رؤية واضحة للفصول، لكن الصوت يأتيني كما لو كنت تلميذة بها.
استيقظ  دومًا على صوت التلاميذ وهم يصيحون بحماسة بالغة: "وعليكم السلااااام ورحمة الله وبركاته يا ميس إيماااااان" .. يرددونها بذلك  اللحن المميز للجملة في كل المدارس المصرية، فأّسب في سري نظام التعليم المصري بأكمله، بعد أن استيقظت - من نوم يصعب استغراقي فيه- في فزع.


لا أعرف لما استيقظ على حصة ميس إيمان تحديدًا، انشغل ذهني بالأمر، حتى أنني قضيت أحدى ليالي الأرق أفكر في الأمر جديًا، لماذا يعلو صوت الطلاب دومًا في حصة ميس إيمان دون غيرها؟ لماذا لا استيقظ على صوت التلاميذ في طابور الصباح مثلاً، وهو يجمع طلاب المدرسة جميعهم وبالتالي - وبالمنطق- فلابد أن يكون صوتهم أعلى من صوت طلاب فصل ميس إيمان؟ لماذا أصلاً يوقعنا الحظ في السكن إلي جوار طلاب مدرسة استيقظ فزعة بسببهم؟.. ثم تبخرت الأسئلة حين غلبني النوم قبل أن أهتدي لإجابة مريحة.

صحيح إنه في بداية انتقالنا للسكن في هذه الشقة كانت ضوضاء تلاميذ المدرسة تسبب لي بعض القلق، إلا أنني الآن صرت آلف الأمر..آلف صوت التلامذة الجهوري، وصوت حفلاتهم الصاخبة وضجيجهم المزعج، ربما يتشابه الأمر مع ما يُقره علم النفس بأن علاقة ألفة من نوع ما تنشأ مع الوقت بين الخاطف والضحية، وهم قطعًا يخطفون مني النوم

ميس إيمان؟ استقر في ذهني أن الطلاب إما يحبونها جدًا فيستقبلونها بحماس، وإما يخافونها جدًا فيستقبلونها بحماس، فلم أعاود التفكير في الأمر مرة ثانية


صارت كل ضوضاء المدرسة مألوفة، حفل عيد الطفولة.. وحفل يوم اليتيم.. وتلك الحفلات التي تجعلني اتسائل في دهشة: "هو النهاردة عيد إيه؟" ولم أعرف أبدًا، إلى أن توقفت عن التساؤل،  "هي حفلة في المدرسة وخلاص"..اعتدت الأمر،  آلفت كل الضوضاء المنبعثة من ذلك المبنى، ومع التعود تبدو الأشياء المزعجة أقل إزعاجًا بعكس انتفاضة المرء منها في المرة الأولى.

 تعودت فحسب على تلك الأصوات، لكن صوت واحد فقط  كنت أحبه ..لا آلفه بفعل التعود، وإنما أحبه بالفعل، صوت أنامل صغيرة تدق على الأكسليفون مقطوعة قضية عم أحمد لعمر خيرت، ربما عازف صغير.. أو عازفة صغيرة، لا أعرف..لم أرَ، ولم أهتم بأن أرى، فقط أهرع إلى البلكونة الصغيرة في غرفتي، التي تجعلنى أقرب ما يكون من المدرسة، واستمع..استمع بتبتُّل وخشوع، ويحلِّق قلبي بعيدًا في عالم سحري يتشكل مع ضربات الأكسليفون، يأخذني الصوت تارة لأيام ابتدائي حيث تعلمت لفترة العزف على الأكسليفون، فاسترجع مع العزف الصورة ..تلك الصورة من الزمن البعيد، أراني بيونيفورم المدرسة..اسمع ضوضاء "حوش" مدرستي، وأرى أصدقاء الطفولة ومستر أيمن عازف الموسيقى وهو يدربني على العزف، وتارة أخري تأخذني دقات الأكسليفون لتخيل أنني أحضر حفل موسيقي ضخم في مسرح مهيب..اتصور ماذا سأرتدي، ومَن سيصحبني..وكيف ستكون أجواء الحفل، ابدأ في التمايل من فرط الذوبان مع الموسيقى.. ومن فرط التخيل.


انتظر العزف الذي يأتيني على مر أسابيع متقطعة، فأهرول إلى البلكونة استمع في بهجة طفولية حمقاء، نفس المقطوعة في كل مرة: قضية عم أحمد، نفس دقات الأكسليفون..نفس الجزء من المقطوعة..ثم صمت،  لا أحد يصفق..لا تصفيق يصاحب العزف..ولا تصفيق يشجع بعده، في كل مرة تُعزَف المقطوعة، تكن لي نفس الملاحظة: لا تصفيق!


هذا عزف تلميذ أو تلميذة لا جدال، لا يمكن أن يكون لأستاذ الموسيقى مثلاً، تلك الدقات المرتبكة التي تتعثر أحيانًا فتفقد اللحن ثم تستعيده - تخبرني أنها دقات طفل بلا شك، لكنها دقات جميلة، طفل يحاول أن يجد طريقه للحن صحيح، هل تعرفين يا صغيرتي أو يا صغيري أن تلك المحاولات الممتدة على مدار أسابيع.. جميلة؟ وأن تلك الدقات المرتبكة تسرق قلبي؟ هل تعرف الصغيرة أو يعرف صديقي الصغير أن عزفه منفردًا دون تصفيق، أمر سيواجهه معظم الوقت، لا في المدرسة الابتدائية فحسب؟، وأن الشك في تمكُّنه من العزف أساسًا سيتجاوز جدران الفصل وجدران المدرسة ويصاحبه على طول الطريق وفي أمور أكبر من العزف؟ وأنه سيحتاج من وقت لآخر إلى تصفيق يطمئنه أنه قد أجاد ليواصل العزف واثقًا في نفسه وفي جدوى عزفه؟




لذلك فقط وددت لو يعلم مَن يعزف أنني أصفق..أصفق بحرارة في كل مرة أستمع فيها لذلك العزف الجميل حتى في ارتباكه، وودت فقط لو يصل التصفيق إلى ذلك القلب الصغير، كما وصل العزف إلى قلبي فجعله يتسع الكون مع كل  دقة إكسيليفون.