الاثنين، 18 يونيو 2018

نهاية بلا نهاية


لم تعد خسارتنا للأشخاص تأتي عقب مشاجرة مزلزلة كما كان الحال أيام طفولتنا، بِتنا نخسرهم دون شجار من الأساس، تتكدس التراكمات واحدة فوق الأخرى، موقف بعد موقف، فينبني حائط من الخيبات يفصلنا عنهم، وينتهي كل شيء ..هكذا ببساطة. 


يُقال أن لا علاقة بين أي اثنين تنتهي بفعل الموقف الأخير، وقد يتصادف أن يكون الموقف الأخير هو الأكثر سذاجة بينهما، لكن ما يُنهي العلاقة حقًا التراكمات،  وأظن أن الأمر ذاته ينطبق على شتى أنواع العلاقات الاجتماعية، تُنسَج النهاية على مهل منذ أول موقف أوجعنا بحق وغضضنا الطرف عنه، ومرة بعد مرة نفقد قدرتنا على التغافل، وتتلاشى قدرتنا على الاستمرار، لنكتشف حينها أن جرح أول موقف لم يندمل، ولم نشف منه تمام الشفاء، وكأننا فقط اخترنا ألا نتألم منه بصوت عال؛ ظنًا مننا بأن التحايُل على ما يؤلمنا يضمن لنا تعافي أسرع، لكن لا خَدر يمنع التألم نهائيًا، هو فقط يؤجل موعد إحساسنا به، لتأتي مواقف تالية فتجدد النزف من الجرح القديم مع جراح جديدة، فتصعب المداواة .


تبدل شكل الخسارة، فلم تعد روابط جمعتنا بالبعض تنتهي بنقطة واضحة في أخر السطر، بِتنا نألف شكل أخر للخسارة نلتقي فيه هؤلاء كل يوم، نحدثهم كل يوم، لكن الفارق أنهم يكونوا قد سقطوا من ذلك البرج العالي الذي وضعناهم فيه في قلوبنا، أتذكر ما كُتب يومًا على أحد وسائل التواصل الاجتماعي بما معناه "لا يُشترط أن أعاملك بسوء إذا كنت غاضبًا منك، صرنا أنضج من ذلك"، أضيف: "لن أدير وجهي حينما أراك، يكفي فقط أنك سقطت من قلبي" .

نلتقيهم .. نتعامل معهم- ربما بشىء من عدم الأريحية- لكننا وهم نعرف جيدًا أن ما كان لم يعد موجودًا، صار ما يجمعنا ضرورة لا أكثر، صارت مساحتهم في القلب خالية.. تحول بستانهم المزهر في القلب إلى صحراء مقفرة، أما مساحتنا التي شغلناها في قلوبهم فيكون نصيبها الشك في أنها كانت موجودة في يوم ما من الأساس، وشيئًا فشيء تبهت العلاقة تمامًا وتتلاشى كأنها لم تكن، عبّر عز الدين شكري فشير عن ذلك في كتابه باب الخروج حينما قال: " افترقنا وانتهى الأمر بيننا.. لا دراما، مجرد شعور مستقر بأن ما ضاع لن يعود، وربما لم يكن موجودًا وتخيلته أنا أو تمنيته".

مؤسفة للغاية نهايات كتلك.. ليتنا تشاجرنا ليتوفر لنا سبب منطقي للنهاية!.

هم ليسوا سيئون، لكننا بالغنا في تصديق أنهم أفضل مما هم عليه، ربما فقط أسأنا الفهم فأعطينا للآخرين أكثر مما يستحقوا، وخوّلناهم مكانة لم يكونوا أهلاً لها، ربما الخطأ في التقدير غير السليم للأشخاص ومكانتهم، لا أنهم تبدّلوا أو تغيّروا،  ربما الخطأ كله أننا لم نتمتع فحسب بالبصيرة الكافية، فكانت رؤيتنا قاصرة..منقوصة.. وتنطوي على تضخيم ومبالغة.


أفكر .. هل لي أن أحزن؟ 
فأسارعني بالجواب في هيئة سؤال، وهل يحتاج الحزن إلى إذن؟ يغمر الحزن المرء بلا استئذان، يتمكن منه في الوقت الذي يتصور أنه بفعل خيبات سابقة أنهى مخزون الحزن كله لمنتهاه، لكنه مرواغ، الحزن مرواغ، يأتي أحيانًا بلا مقدمات، ويعصانا أحيان أخرى في أوج هزائمنا فلا نشعر به، لكن يظل الحزن دومًا شعور إنساني طبيعي مهما سفه السبب أو تعاظم، لذا طبيعي أن أحزن.. لا عليهم..وإنما على حسن الظن الذي لم يكن في محله، أو ربما على صورة جميلة لهم في مخيلتي لم تكتمل أبدًا، يبدو إنه حقيقي ما يتردد عن إن السعادات غير المكتملة تولد حزنًا مضاعفًا، بينما السعادات التي لم نعرف إحساسها من الأساس يكن وجعها أقل..وجع تمنيها فحسب، أما وجع أن تمتلك ثم تفقد فبالغ القسوة، ربما لذا يأسرني دوما تعبير: ( لقد مسنا الحلم مرة)..وأستشعر فيه شجن عميق سواء على صعيد وطني أو على أصعدة حياتية شخصية.  

أعاود التفكير.. هل لي أن أندم؟ 
أتردد في الإجابة إلى أن استقر عليها: لا، فكل تجارب الحياة دروس لأصحابها، وبعضها فقط نتعلمه بطريقة مؤلمة، لتظل برغم الألم منطوية على ما يصقل المرء ويعيد تشكيله، ويبقى الأمر المطمئن في النهاية أن البِر لا يَبلى، كل بِر بذلته النفس للغير وتبين أنه لم يكن في محله لن يبلى عند الله، فعلام الندم؟.


استطرد التفكير، وماذا إذن عن هذا الوقت المنطبع في القلب كندبة، هل سيمضي ويزول أثره الثقيل؟ 
يبادرني جاهين بالرد: "هتنتهي ولابد راح تنتهي، مش انتهت أحزان كتير قبلها؟".