الأربعاء، 19 فبراير 2014

ثرثرة موجعة وطنياً

تمهيد لابد منه :


على طريقة خزعبلات الطفولة الساذجة،بأن تظن أن الأبطال موجودون داخل جهاز التليفزيون، و لا يفصلك عن أن تلمسهم  وتشعر بوجودهم المادى سوى الشاشة،أوعلى طريقة الخرافات التى غرسها فينا أولياء أمورنا لتهذيبنا كأن ينال منا " أبو رجل مسلوخة" إذا خرجنا عن سياق الأدب ،أو أن تعذبنا "أمنا الغولة" إذا تمادينا فى تصرفاتنا المغلوطة..

 بنفس سذاجة منطق أن نرمى أسنانا المخلوعة فى الشمس مع ترديد تلك الأغنية الحمقاء" يا شمس يا شموسة" حتى لا يكون نصيبنا أسنان بديلة أصابها الإعوجاج إن لم نفعل..


 بالتوازى مع كل تلك الحماقات ،قد تكتشف مع الوقت خرافات أخرى..خرافات فُرضت عليك و أنت شخص كبير ..ناضج..لا مجرد طفل صغير تنجح مثل هذه الخرافات فى أن تُخّلص أولياء أمره من زنه و وجع دماغه..فتكتشف أنك ظللت كالأبله مؤمن بها ..إلى أن يشاء الله و يكشف عن بصيرتك ما يحجبها عن الرؤية السليمة للأمور..مع فارق أنك لن تتذكرها و تضحك كخرافة التليفزيون أو أبو رجل مسلوخة و أمنا الغولة أو السنة المخلوعة.


البداية..كلام نواعم 


كفتاه فى النصف الثانى من العشرينات،أتصور أنه من المفترض أن يناسبها فى ذلك السن أى شىء أخر غير ما أجابهه أنا و جيلى بشكل عام..كأن أتمكن  مثلاً من الاستمتاع بالإندساس  فى تلك الجلسات النسوية كالتجمعات العائلية و أنعم بدفء تلك المحادثات الفارغة التى لا تفضى لأى شىء سوى قتل الوقت..تلك المحادثات المستهلكة عن طرق جديدة لعمل أكلة معينة..أو أسلوب مبهر توصلت له طنط فلانة للحفاظ على سلامة الفاكهة لوقت أطول بأن تضعها فى ذلك النوع من المعلبات الذى تمكنت من شراءه بثمن بخس بعدما لم يتمكن البائع من الضحك عليها ( وهو ضحك عليها ونص و تلت أرباع عشان ابن سوق بالبلدى)..لكن ذلك التجمع الأخير جعلنى أشفق على جيلى ..كنت غير قادرة على مجاراة أحاديثهن ..كنت أكبر منهن سناً و أثقل منهن هماً..فاستوقفتنى كلمة الخلاط التى أنتشلتها من وسط جملة طويلة لم  أتبينها بدقة لأننى كنت أقتل الوقت بينهن على طريقتى..لا بالإستماع لهن و إنما بمشاهدتهن !


- خلاط ماركة أخرى :


كان الخلاط فى جملة طنط (س) من ماركة مولينكس..بينما ما استقر فى ذهنى و فصلنى لفترة لا بأس بها عنهن..هو خلاط الفكر الذى نعيشه نحن الشباب فى فترة يقال أنها الحياة بإنطلاقها و عنفوانها..بينما ما نعيشه فعلياً..خلاط يضربنا نحن..ويضرب أفكارنا و معتقداتنا و ما نؤمن به مع كل المتضادات و المتناقضات لما  نعتنقه، لينتج فى النهاية خليط غير محدد الهوية..خليط جزء من مكوناته يدعوك للثبات و التمسك بفضيلة ما تعتنق من مبادىء..وجزء يقسم عليك بأن تكفر بقيمك التى لا مجال لها إلا فى تلك المساحة الضيقة فى الصحراء الغربية بعقلك..وجزء أخر يوسوس لك بأن الحمقى أمثالك لن ينالوا من مبادئهم إلا كسب مناقشات نظرية بينما عمليا ً و على أرض الواقع "الفهلوة تكسب"..

فى حين أن جزء من مكونات هذا الخليط العجيب يُذّكرك بأن الخير سينتصر فى النهاية و ما نحن إلا فى مشهد الذروة الذى تتشابك فيه الأحداث وتصل لقمة التعقيد ثم تبدأ بعدها كل التفاصيل فى السير نحو المكان الطبيعى لها بعد فض الإشتباك..مقابل جزء أخر يصرخ فيك بأن إنتصار الخير لا وجود له إلا فى الميلودراما الساذجة و يكرر عليك أن العدل موجود..و لكن فى السماء  و فى الأخرة..لا على الأرض و لا فى الدنيا.

خلاط يجعلك تتوقف أمام فكرة إنه لا بد و أن  تحب بلدك و إلا فأنت فاسد الطبع و كريه و منبوذ من كل هؤلاء " الوطنيين" حولك..و لكنك فعليا ً غير قادر على حبها..لأن لا علاقة حب سوية إلا ووجب أن تكون موزونة من الطرفين أخذاَ و عطاءً..بينما ما نأخذه من بلدنا..نأخذه على " قفانا " لا أكثر.


إذن ففى كل الأحوال و جميع الأوضاع يجب أن تحب بلدك و إلا فأنت جاحد..ناكر الجميل.
منطقى..يجب أن أحب بلدى..و لكن يتطلب منا الأمر أولاً أن نضع تعريف لما تعنيه تلك اللفظة المكونة من أربعة حروف : " بلدى" التى يجب أن أحبها و إلا فأنا ناكرة للجميل..


ثم أن..أى جميل  أساساً؟


جميل الأطعمة المرشوشة بمبيدات مسرطنة..أم جميل الشرب من مياه مخلوطة بمياه صرف..جميل التعليم الفاسد..أم جميل الإهانة فى الشارع بفعل تحرش قولاً أو فعلاً من معتوه عديم الأخلاق و الدين أعطته الدولة فرصة أن يؤذينى فى الشارع دون رادع ور بما أيضاً كانت سبباً فى أن تصل به لهذه الحالة..أن يخطف لذة من الشارع عرف أنه لن يمتلكها يوما ً..


أم جميل الإهانة من كائنات موجودة فى الشارع أضطر للتعامل معهم لأن فيهم سائق ميكروباص أحتاجه ليوصلنى لعملى و أضطر للإذعان لتسعيرته للأجرة التى يقرها حسب مزاجه و إلا عّرضت نفسى للسباب من أقذر قواميس الألفاظ إذا فكرت و أعترضت..وبالقطع لا أضع نفسى أبداً فى هذا الموقف..لا أجعل الإشتباك مع أى سائق ميكروباص تحديداً من ضمن خياراتى ،وهو أمر يجعلك تشعر بالقهر فى حد ذاته..ولكننى دائماً أتذكر صورة تلك الفتاة التى أختلفت مع سائق ذات مرة لأنه سلك طريق أخر مضللاً إياها رغم أنها سألته قبل استقلال الميكروباص ليكسب أجرة إضافية بغض النظر عما ستخسره هى من وقت ..ولك أن تتخيل فتاة كبيرة فى الشارع تتلقى وابل من أقذع الشتائم دون أن يحرك أحد ساكناً !


أما أبسط السيناريوهات إذا فكرت فى الإعتراض على رفعه للأجرة فأنه سيردد علىّ تلك الجملة الكلاسيكية  بأن أنزل من الميكروباص مطرودة..أو ربما عاقب جميع الركاب بتلك العبارة الشهيرة " شوفولكوا عربية تانية..مش طالع..أبو دى فردة "!


كائنات مضطرة للتعامل معهم لأن فيهم سائق تاكسى أظل طوال الطريق معه أرسم سيناريوهات للطريقة التى سيخطفنى بها،أو أتغاضى عن نظراته الفجة فى المرآة..أو أستجمع كل قوتى للتصدى لاستغلاله لى فى المطالبة بأجرة أعلى مما يستحق أو لخبثه فى سلك طرق أطول و" الحسّابة بتحسب" أو لإنعدام أمانته بتلاعبه فى العداد..لأنه أيضاً يعرف أن لا حسيب سيتصدى له و أن الفهلوة و" تقليب الفلوس من الخلق " بأى طريقة هى وسيلته لأن يعود لأسرته مساءً بالعشاء.

أم جميل تسول وظيفة من الدولة إذا كنت ممن واسطتهم فى الحياة ربنا لا فلان الفلانى بيك..و لا علان العلانى باشا..أم جميل تسول إنهاء أى ورق من أى جهة حكومية تدفع فيها " رشا " على طريقة أحمد حلمى تيسيراً لإنهاء إجراءاتك بمبلغ يفوق رسوم إنهاء ورقك عدة أضعاف..ناهيك عن سخافة التعامل مع الموظفين الذين يظنون- إلا من رحم ربى ممن مازال لديهم ضمير حى- أن ذلك الكرسى الصغير الذى يجلسون عليه يخّولهم للتحكم فى البشر..لتكتشف أن أى  كرسى  فى هذا البلد يعطيك و لو سلطة توزيع لبان على الناس قادر على أن يحولك لإمبراطور فى حدود مملكة تبنيها أنت بذلك الكرسى البائس الذى وجدت أنه يجعلك تهيمن على الخلق..و للعجب تجدهم ينصاعون لجبروتك!


أم جميل المتاجرة بمرضك بيع وشراء حتى و إن كنت تمتلك المال و لا تنتظر من الدولة تأمينها الصحى الفاشل ،حتى و إن كنت تمتلك ثمن الكشف فى أكبر عيادات فى البلد..فبعد الفزيتة الخرافية التى تتجاوز المئتان و الثلثمائة جنيه فأنت فى شو للمتاجرة بأوجاعك: "مستعجل ..أدفع مستعجل ..مستعجل أوى أدفع للشخص المسئول  عن الحجز و تنظيم المواعيد فوق الكشف المستعجل اللى دفعته فوق تمن الكشف أساساً..استحمل عجرفة و تكبر الدكتور عليك  و ضيقه من أسئلتك عشان أنت واخد من وقته الثمين كتير.. " و كأنك ضيف ثقيل فاجأته بالزيارة فى وقت غير مناسب!


قائمة الجمايل فى البلد طويلة و بالقطع تشمل ما هو أقسى من ذلك ،لكنى فقط أعدد ما عايشته سواء بشكل شخصى أو فى محيطى الإجتماعى ،و بالقطع فحظى بها أفضل من كثيرين..و إن كان وضعى بها أفضل من غيرى فلا أظن أن للدولة أى جميل فى وضعى..لذا لا أذكر من الجمايل إلا ما عايشته بالفعل ..لكن الجمايل كثيرة و قائمتها طويلة و لا تنتهى.



إذن فهذا هو الخلاط بالنسبة لى ..كل ما سبق هو مفهومى للخلاط ..لا الخلاط من ماركة مولينكس الذى تقصده طنط "س".



إغتراب

انفصلت ذهنياً تماماً عن تلك الجلسة النسوية ،و أنا أشعر بغصة ما..إغتراب نفسى ما..صار فى داخلى فجأة غضب و حنق شديدين نحو الجيل الأكبر..لا أدّعى أننا كشباب أكثر منهم وطنية..ولكن ثمة فارق جوهرى خلق لدى ذلك الشعور بالإغتراب عن هذا الجيل،وهو أنهم قد يقبلوا بأى حلول قريبة تضمن لهم مواصلة السير دون التحقق من سلامة الطريق ..يستسهلون الأمور دون نظرة لما هو أبعد..يرضون بأى مُسكّن حتى و إن كان مفعوله سريع الزوال، بينما نحن كشباب لا نقبل أى طرح و السلام..لا من باب العند كما يتصور البعض  و إنما  من باب الخجل من دماء شابة سالت تحتم علينا ألا نقبل إلا بما سالت من أجله هذه الدماء..ألا ننظر فقط للحظة التى نعيشها و إنما ننظر لمستقبل نتمنى أن نعيشه على النحو الذى يرتضيه مفهوم الآدمية ..بات الإغتراب النفسى يملأ روحى كلما هوجمنا كجيل يتهموه بأنه لا يعجبه العجب ..رغم أن العجب كله فى أننا ندفع ثمن أخطاء و ضعف و خضوع أجيال سبقتنا..أتذكر جملة الإمام الغزالى فى كل مرة يُهاجم فيها جيلى: "هات البديل إذا أردت أن تغير وضعا خاطئا ً" ..و لكن ماذا إذا لم يستمع أحد أساساً لبدائلنا مع التظاهر فقط بالإستماع؟!


 

النكسة 


استقرت عينى و هى تتجول فى تلك الوجوه التى تثرثر على وجه جدتى الدافىء..قلّ شىء من إحساسى بالإغتراب و سكنت روحى إلى حد ما حينما لمست  عينى تفاصيل وجهها..تذكرتها فى إحدى جلساتنا معا ً وهى فى قمة تأثرها و إشفاقها على جيلى مؤكدة أن أيام نكسة 67 على رغم مرارتها إلا أنها كانت أهون مما نعيشه الآن..قالت لى وقتها ( أيامها يا بنتى كنا كلنا فى صف واحد و عارفين مين ضدنا..دلوقتى لا أحنا واحد و لا عارفين مين بالظبط اللى ضدنا) ثم أردفت (أيامكوا صعبة..ربنا يعينكوا عليها ).
 

سفر 

كنت انفصل بذهنى عنهن لأوقات طويلة ،ثم أعود لأشارك بأى كلمات إثبات حضور من باب المجاملات الإجتماعية،إلى أن بادرتنى إحدهن قائلة :" شكلك مرهقة..محتاجة تسافرى " .


محتاجة أسافر..بالقطع أحتاج للسفر..و لكن ربما لبلد أخرى..لا للسياحة..و إنما بحثا ً عن وطن أخر..ربما هو أكثر ما يعّز على ّ الإعتراف به..لأننى فقط شديدة الإرتباط بالذكريات..بالناس..بالأماكن..شىء ما لعين فى داخلى يربطنى بهذا البلد..ليست هى كبلد فى حد ذاتها..ربما أهلى..ربما أصدقائى..ربما ستفوتنى تفاصيل يحتاجوننى فيها إلى جوارهم معنويا ً..

ربما هو تفكير عاطفى بحت..و لكن تتكرر على ذهنى ألاف المرات قصص لأشخاص أعرفهم منهم من مات  عزيز عليه أو  تزوج قريب له..ولا استطاع أن يواسى فى هذا أو يهنىء ذاك بفعل الغربة..كيف لى أن أنسلخ من كل شىء بحثا ً عن وطن أخر..و أنا أعلم أن لعنة وطنى ستطاردنى أينما كنت..كيف أصلا ً أن يكون لى وطنين؟..سأظل غريبة فى أى مكان أذهب إليه مهما طالت بى السنوات هناك..لن يُغير ذلك حقيقة أن أصلى من هنا..و لن ينسينى ذلك  أننى موجوعة من هنا أيضا ً.


أذكر ذلك المقال لأحمد خالد توفيق حينما سرد قصة صديقه الطبيب الذى لم يحتمل سوء الأوضاع فى المستشفيات المصرية لعدم آدميتها..فآثر السفر بعد أن تأثرت نفسيته كثيرا ً مما عايشه هنا..لكن سفره لم يحل شيئاً فى النهاية فى سوء الأوضاع بالمستشفيات..ظل الوضع على ما هو عليه حتى فى داخل نفسه..ذلك الوجع..آثر الهروب فأخذ وجعه معه و رحل.
 


هنا تماما ً توقفت..وجدتنى أسلم نفسى مرة أخرى للخلاط و أضغط زر التشغيل بأقصى قوة..فتوقفت..استأذنت..تركت ورائى تلك الجلسة و هربت أنا الأخرى ..لا بالسفر الفعلى ..و إنما بالسفر فى ذلك العالم المٌسكن للأوجاع وقتياً..للنوم!


النهاية..جابر مأمون نصار

فى اللحظات بين إنصرافى عنهم و توجهى لغرفتى ..أيقنت أن أكبر حماقة ستكتشف أنك ببلاهتك ظللت لفترة لا بأس بها من عمرك ترددها على طريقة سذاجات الطفولة ..هى أن أحلى بلد بلدى..و أم الدنيا و هبة النيل ..إلى أخر ذلك من الصياغات المستهلكة التى حاول أولياء أمورنا "الكبار أوى" غرسها فينا ليتخلصوا من وجع دماغنا..جعلونا نعيش على أمجاد الماضى من عينة بناة الأهرامات و أقدم الحضارات و فيها حاجة حلوة.. لأنه فعلياً لا أمجاد فى الحاضر قادرة على أن تبقيك صامدا ً فى هذا البلد..ولا مجال للفشخرة فى التاريخ الحديث بأى شىء..و لأن ليس بالإمكان أبدع مما كان ..لذا كان الحل أن نعيد و نزيد و نلت و نعجن فيما مضى ..تماماً كمن يعلن إفلاسه فيظل يردد على الناس إنه " ابن بيه و جده باشا " لأنه لا يمتلك فى هذه اللحظة فعليا ً ما يدعو الناس لإحترامه فيستجدى إحترامهم بذكر محاسن العائلة الكريمة.."مع إن أبوه وجده ماتوا خلاص ".



 و للحق..فربما عدم إنتفاضنا ضد تلك السذاجات رغم عدم إيماننا بها من داخل أعمق نقطة فى قلبنا..لا لحماقة منا ولا لأننا ببغاوات تردد ما تسمع دون فهم..و لكن و على طريقة "جابر مأمون نصار" الذى أدى دوره يحيى الفخرانى فى " للعدالة وجوه كثيرة" كان لا بد له من عائلة يزعم الإنتماء لها ليطمئن قلبه بعدما وجد نفسه فى الدنيا بلا أب أو أم أو عائلة ينتسب إليها..كان يعلم أنه يضحك على نفسه  ويكذب عليها و لكنها كانت كذبة كفيلة بأن تحقق له استقرار نفسى من نوع ما..نتقمص  نحن دوره  الآن ..نضحك على أنفسنا لأنه لابد أن يكون لنا  ف النهاية وطن..لأن أقسى شىء قد يواجهه المرء هو اللا إنتماء لأى مكان..ربما نحتاج للرجوع لنهاية المسلسل مرة أخرى..و لكن أذكر أن جابر مأمون نصار أضطر فى النهاية ليتحرر من كذبته !